قال أئمة اللغة : إن النقل ، سواء كان نقل الشيء بذاته كما يقال : نسخت الشمس الظل ، أي نقلته من مكان إلى مكان ، أو نقل صورته كما يقال : نسخت الكتاب ، إذا نقلت عنه صورة مثل الأولى ، وورد : نسخت الريح الأثر : أي أزالته . وأصل النسيان الترك أو هو غايته اللازمة له ، ومنه قوله - تعالى - : ( أصل النسخ أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) ( 20 : 126 ) أي تركتها بترك العمل بها ، فجزاؤك أن تترك في العذاب فاحفظ المعنى اللغوي .
( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) .
( الأستاذ الإمام ) : للمفسرين في تفسير هذه الآية طريقان :
أحدهما : أنها على حد قوله - تعالى - : ( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر ) ( 16 : 101 ) ، فالنسخ هنا بمعنى التبديل ، أي إذا جعلنا آية بدلا من آية ، فإننا نجعل هذا البدل خيرا من المبدل منه أو مثله على الأقل ، فالآية عند هؤلاء في نسخ التلاوة ، وقالوا : إن المراد بالنسيان هو أن يأمر الله - تعالى - بعدم تلاوة الآية فتنسى بالمرة . ( قال ) : وهذا بمعنى التبديل ، فما هي الفائدة في عطفه عليه بـ ( أو ) ؟ وهل هو إلا تكرار يجل كلام الله عنه ؟ .
وثانيهما : أن المراد نسخ حكم الآية ، وهو عام يشمل نسخ الحكم وحده ونسخه مع التلاوة ، وهذا هو القول المختار للجمهور ، وقالوا في توجيهه : إنه لا معنى لنسخ الآية في ذاتها ولا حاجة إليه . وإنما الأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال ، فإذا شرع حكم في وقت لشدة الحاجة إليه ، ثم زالت الحاجة في وقت آخر ، فمن الحكمة أن ينسخ الحكم ويبدل بما يوافق الوقت الآخر ، فيكون خيرا من الأول أو مثله في فائدته من حيث قيام المصلحة به . وقالوا : إن المراد بالإنساء إزالة الآية من ذاكرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد اختلف في هذا : أيكون [ ص: 342 ] بعد التبليغ أم قبله ؟ فقيل : بعده كما ورد في أصحاب بئر معونة وقيل : قبله حتى أن السيوطي روى في أسباب النزول أن الآية كانت تنزل على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليلا فينساها نهارا ، فحزن لذلك فنزلت الآية . قال الأستاذ الإمام : ولا شك عندي في أن هذه الرواية مكذوبة وأن مثل هذا النسيان محال على الأنبياء - عليهم السلام - ؛ لأنهم معصومون في التبليغ ، والآيات الكريمة ناطقة بذلك كقوله - تعالى - : ( إن علينا جمعه وقرآنه ) ( 75 : 17 ) وقوله : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( 15 : 9 ) وقد قال المحدثون والأصوليون : إن مخالفته للدليل القاطع عقليا كان أو نقليا ، كأصول الاعتقاد وهذه المسألة منها ، فإن هذا النسيان ينافي العصمة المجمع عليها . من علامة وضع الحديث
وقالوا في تفسير قوله - تعالى - بعد ما ذكر : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) أنه ورد مورد الاستدلال على القدرة على النسخ بالمعنى الذي قالوه ، أي أنه لا يستنكر على الله كما زعم اليهود ؛ لأنه مما تناله قدرته ، ثم استدل على ذلك بقوله : ( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ) الآية . والخطاب في ( تعلم ) للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به غيره من المؤمنين الذين ربما كانوا يمتعضون من كلام اليهود وغيرهم من المعترضين على النسخ ، وضعيف الإيمان يؤثر في نفسه أن يعاب ما يأخذ به ، فيخشى عليه من الركون إلى الشبهة أو الحيرة فيها ؛ ففي الكلام تثبيت لمن كان كذلك من الضعفاء ودعم لإيمانهم ، وتوجيه الكلام إلى شخص يراد غيره شائع في كلام العرب والمولدين ؛ ولذلك قال بعض العلماء : نزل القرآن على طريق قولهم : ( إياك أعني واسمعي يا جارة ) وإذا كان هذا الملك العظيم لله وحده ، فلا شك أنه لا يعجزه أن ينسخ حكما من الأحكام . ومن آية إرادة الأمة بالخطاب الالتفات عن الأفراد إلى الجمع بقوله : ( وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) أي أن وليكم وناصركم هو الله - تعالى - وحده ، فلا تبالوا بمن ينكر النسخ أو يعيبكم به ، ولا ينبغي أن يستهويكم إنكارهم فيميلكم عن دينكم ، فإنه لا قيمة له ولا للمنكرين إذ ليس في استطاعتهم أن يضروكم أو ينفعوكم إذا كان الله هو مولاكم وناصركم . وإذا أراد الله بكم سوءا فلا يملكون أن يدفعوه عنكم .
ثم قال - تعالى - : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، وهذا كلام [ ص: 343 ] جديد منقطع عما قبله وقالوا : إن ( أم ) هنا للاستفهام لا للإضراب ؛ لأن أم التي تستعمل بمعنى ( بل ) يقصد بها الإضراب عن الكلام السابق ، ولا يظهر الإضراب هنا . هذا ما اختاره الأستاذ الإمام من قولهم .
( قال ) : واستشهدوا لـ ( أم ) الاستفهامية بقول الشاعر :
فوالله لا أدري أهند تقولت أم القوم أم كل إلي حبيب ؟
( الأستاذ الإمام ) : هذا تقرير ما جرى عليه المفسرون في الآيات ، وإذا وازنا بين سياق آية ( ما ننسخ ) وآية ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) ، نجد أن الأولى ختمت بقوله - تعالى - : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) والثانية بقوله : ( والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر ) ( 16 : 101 ) الآية ، ونحن نعلم شدة العناية في أسلوب القرآن بمراعاة هذه المناسبات ، فذكر العلم والتنزيل ودعوى الافتراء في الآية يقتضي أن يراد بالآيات فيها آيات الأحكام .
وأما ذكر القدرة والتقرير بها في الآية الأولى فلا يناسب موضوع الأحكام ونسخها ، وإنما يناسب هذا ذكر العلم والحكمة ، فلو قال : ( ألم تعلم أن الله عليم حكيم ) ، لكان لنا أن نقول : إنه أراد نسخ آيات الأحكام لما اقتضته الحكمة من انتهاء الزمن أو الحال التي كانت فيها تلك الأحكام موافقة للمصلحة ، وقد تحير العلماء في فهم الإنساء على الوجه الذي ذكروه حتى قال بعضهم : إن معنى ( ننسها ) نتركها على ما هي عليه من غير نسخ ، وأنت ترى هذا - وإن صح لغة - لا يلتئم مع تفسيرها ؛ إذ لا معنى للإتيان بخير منها مع تركها على حالها غير منسوخة ، ( قال ) : والمعنى الصحيح الذي يلتئم مع السياق إلى آخره أن الآية هنا هي ما يؤيد الله - تعالى - به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم ، أي ( ما ننسخ من آية ) نقيمها دليلا على نبوة نبي من الأنبياء أي نزيلها [ ص: 344 ] ونترك تأييد نبي آخر ، أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها ، فإننا بما لنا من القدرة الكاملة والتصرف في الملك نأتي بخير منها في قوة الإقناع وإثبات النبوة أو مثلها في ذلك . ومن كان هذا شأنه في قدرته وسعة ملكه ، فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه ، والآية في أصل اللغة هي : الدليل والحجة والعلامة على صحة الشيء ، وسميت جمل القرآن آيات ؛ لأنها بإعجازها حجج على صدق النبي ، ودلائل على أنه مؤيد فيها بالوحي من الله - عز وجل - ، ومن قبيل تسمية الخاص باسم العام .
ولقد يهود من يشكك في رسالته - عليه السلام - بزعمهم أن النبوة محتكرة لشعب إسرائيل ، ولقد تقدمت الآيات في تفنيد زعمهم هذا وقالوا : ( كان من لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ) ( 28 : 48 ) أي من الآيات ، فرد الله - تعالى - عليهم في مواضع منها قوله - عز وجل - بعد حكاية قولهم هذا : ( أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ) ( 28 : 48 ) . . . إلخ ، ومنها هذه الآيات ، والخطاب فيها للمؤمنين الذين كان اليهود يريدون تشكيكهم كأنه يقول :
إن قدرة الله - تعالى - ليست محدودة ولا مقيدة بنوع مخصوص من الآيات أو بآحاد منها لا تتناول غيرها ، وليست الحجة محصورة في الآيات السابقة لا تتعداها ، بل الله قادر على أن يأتي بخير من الآيات التي أعطاها موسى وبمثلها ، فإنه لا يعجز قدرته شيء ، ولا يخرج عن ملكه شيء ، كما أن رحمته ليست محصورة في شعب واحد فيخصه بالنبوة ويحصر فيه هداية الرسالة ، كلا إن رحمته وسعت كل شيء ، كما أن قدرته تتصرف بكل شيء من ملك السماوات والأرض الذي لا يشاركه فيه مشارك ، ولا ينازعه فيه منازع ، فيكون وليا ونصيرا لمن كفر بنعمه وانحرف عن سننه .
انظر كيف أسفرت البلاغة عن وجهها في هذا المقام ، فظهر أن ذكر القدرة وسعة الملك إنما يناسب الآيات بمعنى الدلائل دون معنى الأحكام الشرعية والأقوال الدالة عليها ، من حيث هي دالة عليها لا من حيث هي دالة على النبوة . ويزيد هذا سفورا ووضوحا قوله عقبه : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ؟ فقد كان بنو إسرائيل لم يكتفوا بما أعطى موسى من الآيات وتجرءوا على طلب غيرها وقالوا : ( يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) ( 2 : 55 ) ، وكذلك كان فرعون وقومه كلما رأوا آية طلبوا غيرها حتى رأوا تسع آيات بينات ولم يؤمنوا . وقوله - تعالى - : ( كما سئل موسى ) يشمل كل ذلك .
قد أرشدنا الله - تعالى - بهذا إلى أن التفنن في طلب الآيات ، وعدم الإذعان لما يجيء به النبي منها و الاكتفاء به بعد العجز عن معارضته هو دأب المطبوعين على الكفر ، الجامدين على المعاندة والمجاحدة ، فإنه قال بعد إنكار هذا الطلب : ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) ويوضح هذا قوله - تعالى - في آية أخرى ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ) [ ص: 345 ] ( 17 : 59 ) ، والمراد الآيات المقترحة ، بدليل السياق ، وهو اتفاق بين المفسرين ، ولو كان الموضوع موضوع طلب استبدال أحكام بأحكام تنسخها ، لما كان للتوعد بالكفر وجه وجيه .
وقوله - تعالى - : ( فقد ضل سواء السبيل ) معناه أنه أخطأ وسط الجادة ، ومال إلى أحد الجانبين ، ومتى انحرف السائر في سيره عن الوسط ، يخرج عن المنهج ويبعد عنه كلما أوغل في السير ، فيهلك دون الوصول إلى المقصد . والمراد بسواء السبيل : الحق والخير اللذان تكمل الفطرة بالاستقامة على السير في طريقهما ، ومن مال عن الحق وقع في الباطل لا محالة ، ( فماذا بعد الحق إلا الضلال ) ( 10 : 32 ) .
هذا هو التفسير الذي تتصل به الآيات ، ويلتئم بعضها مع بعض على وجه يتدفق بالبلاغة ، وهو الذي يتقبله العقل ويستحليه الذوق ، إذ لا يحتاج إلى شيء من التكلف في فهم نظمه ، ولا في توخيه مفرداته كالإنساء والقدرة والملك ، وقد اضطر القائلون بأن المراد بالنسخ نسخ الأحكام - مع ما عرفت من التكلف - إلى القول بجواز نسيان الوحي ، وطفقوا يلتمسون الدلائل على ذلك ، حتى أوردوا قوله - عز وجل - : ( واذكر ربك إذا نسيت ) ( 18 : 24 ) ، وليس من هذا الموضوع ولا المخاطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما جاء على طريق الحكاية ، وأما قوله - تعالى - : ( سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ) ( 87 : 6 ، 7 ) فهو يؤكد عدم النسيان ؛ لأن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل في أسلوب القرآن للدلالة على الثبوت و الاستمرار ، كما في قوله - تعالى - : ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ) ( 11 : 108 ) أي غير مقطوع . وقوله : ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ) ( 7 : 188 ) . والنكتة في الاستثناء بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة إنما كانت كذلك بمشيئة الله - تعالى - لا بطبيعتها في نفسها ، ولو شاء الله - تعالى - أن يغيرها لفعل ، وهذا الاعتقاد من مهمات الدين ، فلا غرو أن تزاح عنه الأوهام في كل مقام يمكن أن تعرض فيه ، فليس امتناع نسيان الوحي طبيعة لازمة للنبي ، وإنما هو تأييد ومنحة من الله - تعالى - ، وليس واجب عقلي أو طبيعي ، وإنما هو بإرادة الله - تعالى - ومشيئته . خلود أهل الجنة في الجنة
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( أو ننسأها ) أي نؤخرها ، ولا يظهر هذا المعنى في مقام نسخ الأحكام كما يظهر في نسخ الآيات والمعجزات المقترحة على الأنبياء ، فإن الآية التي تقترح على نبي ؛ لأنها كانت لنبي قبله ، قد تنسخ بآية جديدة خير منها أو مثلها ، وقد تؤخر بالآية الجديدة ، ثم تعطى في وقت آخر بعد الاقتراح ، ولكن تأخير آيات الأحكام ليس له معنى ظاهر .