[ ص: 176 ] ( إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) .
بعد أن بين الله تعالى بطلان التقليد وهو أن يتبع المرء غيره من الناس في فهمه للدين ورأيه فيه بغير علم ولا حجة ، أمر المؤمنين بصيغة الإغراء بأن يهتموا بإصلاح أنفسهم بالعلم الصحيح والعمل الصالح الذي يعد رشدا وهدى ، وبين لهم أنهم إذا أصلحوا أنفسهم وقاموا بما أوجب الله عليهم من علم وتعليم وعمل وإرشاد ، فلا يضرهم من ضل من الناس عن محجة العلم بالجهل والتقليد ، وعن صراط العمل الصالح بالفسق والإفساد في الأرض فقال : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) أي الزموا إصلاح أنفسكم ، وتزكيتها بما شرع الله لكم ، لا يضركم ضلال غيركم إذا اهتديتم ، إذ لا تزر وازرة وزر أخرى . ، فإذن لا تكونون مهتدين إلا إذا بلغتم دعوة الحق والخير ، وعلمتم الجاهلين ما أعطاكم الله من العلم والدين ، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ، فلا تكتموا الحق والعلم كما كتمه من كان قبلكم ، فلعنهم الله على لسان أنبيائهم ولسان نبيكم ( ومن أصول الهداية : الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ) أي إليه وحده رجوعكم ورجوع من ضل عما اهتديتم إليه فينبئكم عند الحساب بما كنتم تعملون في الدنيا ويجزيكم به .
وقد اختلفت الروايات عن الصحابة والتابعين في هذه الآية .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : قال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا ، حدثنا زهير يعني ابن معاوية حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قيس قال : " قام رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ، إنكم تقرءون هذه الآية ( أبو بكر الصديق ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) إلى آخر الآية وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال : [ ص: 177 ] وسمعت إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه أبا بكر يقول : " يا أيها الناس إياكم والكذب فإن الكذب مجانب للإيمان " وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة في صحيحه وغيرهم من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة عن وابن حبان به متصلا مرفوعا ومنهم من رواه عنه به موقوفا على إسماعيل بن أبي خالد . وقد رجح رفعه الصديق وغيره ، وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولا في مسند الدارقطني رضي الله عنه . الصديق
وقال : حدثنا أبو عيسى الترمذي سعيد بن يعقوب الطالقاني ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا عتبة بن أبي حكيم ، حدثنا عمرو بن حارثة اللخمي ، عن أبي أمية الشعباني قال : أتيت فقلت : أبا ثعلبة الخشني ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام ، فإن من ورائكم أياما الصابر فيهن مثل القابض على الجمر ، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم " قال وزاد غير عبد الله بن المبارك عتبة قيل : " يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا أو منهم ؟ قال : لا بل أجر خمسين منكم " ثم قال " ما تصنع في هذه الآية ؟ قال : أية آية ؟ قلت : قول الله تعالى : ( الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح ، وكذا رواه أبو داود من طريق ، ورواه ابن المبارك ابن ماجه وابن جرير عن وابن أبي حاتم عتبة بن أبي حكيم .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الحسن سأله رجل عن قول الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) فقال : إن هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة ولكنه قد يوشك أن يأتي زمانها تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا أو قال فلا يقبل منكم ، فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل .
ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية عن في قوله : ( ابن مسعود ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل ) الآية قال : " كانوا عند فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه فقال رجل من جلساء عبد الله بن مسعود عبد الله : ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر فقال آخر إلى جنبه : عليك بنفسك فإن الله يقول : ( عليكم أنفسكم ) الآية . قال : فسمعها فقال : مه لم يجئ تأويل هذه بعد ، إن القرآن أنزل حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ومنه آي وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنه آي وقع تأويلهن [ ص: 178 ] بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب ما ذكر من الحساب والجنة والنار ، فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فائمروا وانهوا ، وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فائمر نفسك وعند ذلك جاء تأويل هذه الآية " رواه ابن مسعود . ابن جرير
وقال : حدثنا ابن جرير ، حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا شبابة بن سوار ، عن الربيع بن صبيح سفيان بن عقال ، قال : " قيل : لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه; فإن الله قال : ( لابن عمر عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) فقال : إنها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ابن عمر . فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم " . ألا ليبلغ الشاهد الغائب
وقال أيضا : حدثنا حدثنا محمد بن بشار محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا : حدثنا عوف عن سوار بن منبه قال : " كنت عند إذ أتاه رجل جليد في العين شديد اللسان فقال : يا أبا ابن عمر عبد الرحمن نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه ، وكلهم مجتهد لا يألو ، وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة إلا الخير ، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك . فقال رجل من القوم : وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك ؟ فقال الرجل : إني لست إياك أسأل إنما أسأل الشيخ ، فأعاد على عبد الله الحديث ، فقال عبد الله : لعلك ترى لا أبا لك أني سآمرك أن تذهب فتقتلهم ! عظهم وانههم ، فإن عصوك فعليك بنفسك فإن الله عز وجل يقول : ( ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ) الآية .
وقال أيضا : حدثني ، حدثنا أحمد بن المقدام ، سمعت أبي ، حدثنا المعتمر بن سليمان قتادة عن أبي مازن قال : " انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة فإذا قوم جلوس فقرأ أحدهم هذه الآية ( عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل ) فقال أكثرهم : لم يجئ تأويل هذه اليوم " .
وقال : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسن ، حدثنا ابن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن قال : " كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لأصغر القوم ، فتذكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقلت أنا : أليس الله يقول في كتابه : ( جبير بن نفير ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) ؟ فأقبلوا علي بلسان واحد ، وقالوا : تنزع آية من القرآن لا تعرفها ولا تدري ما تأويلها فتمنيت أني لم أكن تكلمت . وأقبلوا يتحدثون ، فلما حضر قيامهم قالوا : إنك غلام حديث السن ، وإنك [ ص: 179 ] نزعت آية ولا تدري ما هي ، وعسى أن تدرك ذلك الزمان : إذا رأيت شحا مطاعا . وهوى متبعا ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ، لا يضرك من ضل إذا اهتديت " .
وقال : حدثنا ابن جرير علي بن سهل حدثنا قال : تلا ضمرة بن ربيعة الحسن هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) فقال الحسن : الحمد لله بها . والحمد لله عليها ، ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جنبه منافق يكره عمله . وقال : إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر فلا يضرك من ضل إذا اهتديت . رواه سعيد بن المسيب وكذا روي من طريق ابن جرير عن سفيان الثوري عن أبي العميس أبي البختري عن حذيفة مثله ، وكذا قال غير واحد من السلف .
وقال ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي حاتم هشام بن خالد الدمشقي ، حدثنا الوليد ، حدثنا ، عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب كعب في قوله : ( عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) قال : إذا هدمت كنيسة مسجد دمشق فجعلت مسجدا وظهر لبس العصب فحينئذ تأويل هذه الآية اهـ .
أقول : علم من هذه الروايات أن السلف اتفقوا على أن ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويفهم منه أن هذا فرض لازم دائم ، ولكن بعضهم يقول : إن المؤمن لا يكون مهتديا بمجرد إصلاحه لنفسه إذا لم يهتم بإصلاح غيره ، أو فماذا يخشى أن يفضي إلى إيذاء الواعظ المرشد ، وقد رجح فريضة الأمر والنهي تسقط إذا فسد الناس فسادا لا يرجى معه تأثير الوعظ والإرشاد وغيره من المحققين القول الأول لقوة روايته ، وسائر أدلته ، والتحقيق أن من علم أو ظن ظنا قويا أنه ينال أذى إذا أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر يسقط عنه الفرض ، ويكون الأمر والنهي حينئذ فضيلة لا فريضة ، وهذا إذا رجح أن [ ص: 180 ] المنكر يزول بإنكاره ، فإذا رجح أنه يؤذى ولا يترتب على نصحه فائدة ، فحينئذ يكره له أو يحرم عليه إذا كان من الإلقاء باليد إلى التهلكة ، وقد فصل القول في ذلك ابن جرير في كتاب ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) من الإحياء فليراجعه من شاء . أبو حامد الغزالي
ومن فوائد هذه الروايات تصريح بعض علماء الصحابة رضي الله عنهم بأن في القرآن أحكاما لا يظهر تأويلها إلا بعد عصر التنزيل ، أي أن آيات الأحكام في ذلك كآيات الإخبار بالغيب ، وكثيرا ما نبين في تفسيرنا ما يظهر تأويله في عصرنا ، كما بين من قبلنا ما ظهر لهم من المعاني المتعلقة بعصورهم ، ولا غرو فقد وصف القرآن في الآثار بأنه لا تنتهي عجائبه .