وأما معنى الآيات وتفسير نظمها فنبينه بما يلي :
( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ) أي حكم ما يقع بينكم من الشهادة أو كيفيته إذا نزلت بأحدكم أسباب الموت ومقدماته وأراد حينئذ أن يوصي هو أن يشهد اثنان . . . إلخ . أو الشهادة المشروعة بينكم في ذلك هي شهادة اثنين من رجالكم ذوي العدل والاستقامة ، وذلك بأن يشهدهما الموصي على وصيته سواء ائتمنهما على ما يوصي به ، كما في واقعة سبب النزول أم لا ، ويترتب على إشهاده إياهما أن يشهدا بذلك ، ومن إيجاز الآية أن عبارتها تدل على الإشهاد والشهادة جميعا . والمراد بقوله : ( منكم ) من المؤمنين وهو قول الجمهور ، وقيل : من أقاربكم ، وروي عن الحسن وأخذ به كثير من الفقهاء ( والزهري أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ) أي أو شهادة شهيدين آخرين من المسلمين أو من الأجانب إن كنتم مسافرين ونزلت بكم مقدمات الموت وأردتم الإيصاء . وفي الكلام تأكيد شديد للوصية وللإشهاد عليها ( تحبسونهما من بعد الصلاة ) استئناف بياني كأن السامع لما تقدم يقول : وكيف يشهدان ؟ فأجيب بهذا الجواب ، أي تمسكون الشهيدين اللذين أشهدا على الوصية من بعد الصلاة . قال الأكثرون : المراد صلاة العصر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلف عديا وتميما فيه ، ولأن العمل جرى عليه ، فكان التحليف فيه هو المعتاد المعروف ولأنه الوقت الذي يقعد فيه الحكام للقضاء والفصل في المظالم ، والدعاوى لاعتداله واجتماع [ ص: 185 ] الناس فيه ، إذ يكونون قد فرغوا من معظم أعمال النهار ، أو لأن هذا الوقت وقت صلاة عند غير المسلمين أيضا ، فهو وقت ذكر الله الذي يرجى فيه اتقاء الكذب والخيانة منهم أيضا ، أو لأن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى ، أو لأنها تحضرها ملائكة الليل والنهار فيتحرى المؤمن أن يكون بعدها متصفا بالكمال ، وقيل : إن المراد جنس الصلاة المفروضة ؛ لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر فيكون جديرا بالصدق من يكون قريب عهد بها ، وقال : المراد الظهر أو العصر; لأن الحسن البصري أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما ، وروي عن أن الشهيدين إذا كانا غير مسلمين فالمراد بالصلاة صلاة أهل دينهما أي لما ذكرنا من علة ذلك آنفا ( ابن عباس فيقسمان بالله إن ارتبتم ) أي فيقسم الشاهدان على الوصية إن شككتم في صدقهما فيما يقران به ، أي وتستقسمونهما فيقسمان ، والأمين يصدق باليمين ، وقال بعضهم : الفاء للجزاء أي تحبسونهما فيقدمان لأجل ذلك على القسم . قيل : هذا خاص بالشهود من الكفار إذا اتهموا ، أي لأنه لم يشترط فيهم أن يكونوا عدولا . وقيل : عام وقد نسخ ، والصواب أنه لا نسخ في الآيات : قال الرازي : وعن علي عليه السلام أنه كان يحلف الشاهد والراوي عند التهمة ، ويجب أن يصرحا في قسمهما بقولهما : ( لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ) أي : لا نشتري بيمين الله ثمنا ، أي لا نجعل يمين الله كالسلعة التي تبذل لأجل ثمن ينتفع به في الدنيا ولو كان المقسم له من أقاربنا ، وصح إرجاع الضمير إلى المقسم لأجله للعلم به من فحوى الكلام ، كقوله تعالى : ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) ( 6 : 152 ) وهذا موافق لقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) ( 4 : 135 ) والمراد أن يقول المقسم : إنه يشهد الله بالقسط ، ولا يصده عن ذلك ثمن يبتغيه لنفسه ، ولا مراعاة قريب له إن فرض أن له نفعا في إقراره وقسمه ، أي ولو اجتمعت المنفعتان كلتاهما ( ولا نكتم شهادة الله ) ويقولان في قسمهما أيضا : ولا نكتم الشهادة التي أوجبها الله تعالى وأمر بأن تقام له أو المؤكدة بالحلف به ( وأقيموا الشهادة لله ) ( 65 : 2 ) ، ( إنا إذا لمن الآثمين ) أي إنا إذا اشترينا بالقسم ثمنا أو راعينا به قريبا بأن كذبنا فيه لمنفعة أنفسنا أو منفعة قرابة لنا ، أو كتمنا شهادة الله كلها أو بعضها ، بأن ذكرنا بعض الحق وكتمنا بعضا لمن المتحملين للإثم المتمكنين فيه المستحقين لجزائه . والإثم في الأصل : ما يقعد بصاحبه عن عمل الخير والبر من معصية وغيرهما . وهذا التعبير أبلغ من " إنا إذا لآثمون " .
( فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان ) قرأ الجمهور " استحق " بضم التاء على البناء للمفعول ، وحفص عن عاصم بفتح التاء بالبناء للفاعل ، وهي مروية عن علي وابن عباس وأبي ، وقرأ يعقوب وخلف [ ص: 186 ] وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر عنه ( الأولين ) جمع الأول الذي يقابله الآخر ، مع قراءتهم " استحق " بالبناء للمفعول ، وقرأه الباقون ( الأوليان ) مثنى الأول سواء منهم من قرأ " استحق " بالبناء للمفعول ومن قرأه بالبناء للفاعل ، ورسم " الأوليان والأولين " في المصحف الإمام واحد وهو هكذا ( الأولين ) .
والمعنى : فإن اتفق الاطلاع على أن الشهيدين المقسمين استحقا إثما بالكذب أو الكتمان في الشهادة أو بالخيانة وكتمان شيء من التركة في حالة ائتمنهما عليها كما ظهر في الواقعة التي كانت سبب النزول فالواجب أو فالذي يعمل لإحقاق الحق هو أن ترد اليمين إلى الورثة بأن يقوم رجلان آخران مقامهما من أولياء الميت الوارثين له الذين استحق ذلك الإثم بالإجرام عليهم والخيانة لهم ، وهذان الرجلان الوارثان ينبغي أن يكونا هما الأوليين بالميت ، أي الأقربين إليه الأحقين بإرثه إن لم يمنع من ذلك مانع كما تفيده قراءة الجمهور أو غيرهما منهم ، كما تفيد قراءة من قرأ ( الأولين ) وهو صفة للذين استحق عليهم أو منصوب على الاختصاص . وتحمل القراءة الأولى على طلب الأكمل ، وهو أن يشهد أقرب الورثة إلى الميت . والقراءة الثانية على ما إذا منع مانع من إقسام أقرب الورثة ، أو كانت المصلحة في حلف غيره منهم لامتيازه بالسن أو الفضيلة ، هذا إذا أريد بالأوليين الأوليان بأمر الميت الموصي ، ويجوز أن يراد بهما الأوليان بالقسم في هذه الحالة ، أي أجدر الورثة باليمين لقربهما من الميت أو لعلمهما أو لفضلهما ، وأما قراءة حفص عن عاصم وبها يقرأ أهل بلادنا فقال أكثر المفسرين في توجيهها : إن " الأوليان " فيها فاعل استحق والمفعول محذوف ، والتقدير : من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان بأمر الميت منهم ما أوصى به أو ما تركه أو ندبهما للشهادة .
وذهب الإمام الرازي إلى أن الأوليين في هذه القراءة هما الوصيان قال : ووجهه أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت عينهما للوصاية ، ولما خانا في مال الورثة صح أن يقال : إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان ، أي خان في مالهم الأوليان ، وقرأ الحسن " الأولان " ووجهه ظاهر مما تقدم اهـ .
أقول : الوجه عندي في ذلك أنهما " الأوليان " باليمين في الأصل; لأنهما منكران واليمين على من أنكر ، وكان المقام مقام الإضمار بأن يقال : من الذين استحقا عليهم الإثم فوضع المظهر وهو " الأوليان " موضع الضمير لإفادة أن الأصل في الشرع أن تكون اليمين عليهما ، ولكن استحقاقهما الإثم بما ظهر من حنثهما اقتضى ردها أي اليمين إلى الورثة ( فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ) أي يحلفان على أن ما يشهدان به من خيانة الشهيدين اللذين شهدا على وصية ميتهما أحق وأصدق من شهادتهما بما كانا [ ص: 187 ] شهدا به ، وأنهما ما اعتديا عليهما بتهمة باطلة أو ما اعتديا الحق فيما اتهموهما به ( إنا إذا لمن الظالمين ) أي ويقولان في قسمهما : إنا إذا اعتدينا الحق وقلنا الباطل لداخلون في عداد الظالمين لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وانتقامه ، أو الظالمين لمن ائتمنهما ميتهم ، وظلمهما محرم عليهم .
ثم بين تعالى حكمة شرعه لهذه الشهادة وهذه الأيمان في هذا الأمر المبني على الثقة والائتمان ، فقال :
( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) أي ذلك الذي ذكر من تكليف المؤتمن على الوصية القيام على مشهد من الناس بعد الصلاة وإقسامه تلك الأيمان المغلظة أقرب الوسائل إلى أن يؤدي الشهداء الشهادة على وجهها بلا تغيير ولا تبديل ، تعظيما لله ورهبة من عذابه ، ورغبة في ثوابه ، أو خوفا من الفضيحة التي تعقب استحقاقهما الإثم في الشهادة برد أيمان إلى الورثة بعد أيمانهم تكون مبطلة لها ، فمن لم يمنعه خوف الله وتعظيمه أن يكذب أو يخون لضعف دينه يمنعه خوف الفضيحة على أعين الناس .
( واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين ) أي واتقوا الله أيها المؤمنون في الشهادة والأمانة وفي كل شيء ، واسمعوا سمع إجابة وقبول هذه الأحكام وسائر ما شرعه الله تعالى لكم ، فإن لم تتقوا وتسمعوا كنتم فاسقين عن أمر الله تعالى محرومين من هدايته مستحقين لعقابه .