منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض
قوله : تلك الرسل قيل : هو إشارة إلى جميع الرسل فتكون الألف واللام للاستغراق ، وقيل : هو إشارة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة ، وقيل : إلى الأنبياء الذين بلغ علمهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
والمراد بتفضيل بعضهم على بعض أن الله سبحانه جعل لبعضهم من مزايا الكمال فوق ما جعله للآخر ، فكان الأكثر مزايا فاضلا والآخر مفضولا .
وكما دلت هذه الآية على أن كذلك دلت الآية الأخرى وهي قوله تعالى : بعض الأنبياء أفضل من بعض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا [ الإسراء : 55 ] .
وقد استشكل جماعة من أهل العلم الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين من حديث مرفوعا بلفظ أبي هريرة لا تفضلوني على الأنبياء وفي لفظ آخر وفي لفظ لا تفضلوا بين الأنبياء فقال قوم : إن هذا القول منه صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل ، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل ، وقيل : إنه قال صلى الله عليه وآله وسلم ذلك على سبيل التواضع كما قال : لا تخيروا بين الأنبياء يونس بن متى تواضعا مع علمه أنه أفضل الأنبياء كما يدل عليه قوله : لا يقل أحدكم أنا خير من آدم أنا سيد ولد ، وقيل : إنما نهى عن ذلك قطعا للجدال والخصام في الأنبياء ، فيكون مخصوصا بمثل ذلك لا إذا كان صدور ذلك مأمونا ، وقيل : إن النهي إنما هو من جهة النبوة فقط ، لأنها خصلة واحدة لا تفاضل فيها ، ولا نهي عن التفاضل بزيادة الخصوصيات والكرامات ، وقيل : إن المراد النهي عن التفضيل لمجرد الأهواء والعصبية .
وفي جميع هذه الأقوال ضعف .
وعندي أنه لا تعارض بين القرآن والسنة ، فإن القرآن دل على أن الله فضل بعض أنبيائه على بعض ، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن نفضل بعضهم على بعض ، فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله لا تخفى عليه منها خافية وليست بمعلومة عند البشر ، فقد يجهل أتباع نبي من الأنبياء بعض مزاياه وخصوصياته [ ص: 173 ] فضلا عن مزايا غيره ، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلا وهذا مفضولا ، لا قبل العلم ببعضها أو بأكثرها أو بأقلها ، فإن ذلك تفضيل بالجهل وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له وهو ممنوع منه ، فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن في الإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفضلوا بين الأنبياء ، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك ؟ وإذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن والسنة بوجه من الوجوه ، فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضل بعض أنبيائه على بعض ، والسنة فيها النهي لعباده أن يفضلوا بين أنبيائه ، فمن تعرض للجمع بينهما زاعما أنهما متعارضان فقد غلط غلطا بينا .
قوله : منهم من كلم الله وهو موسى ونبينا سلام الله عليهما .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه آدم : إنه نبي مكلم . قال في
وقد ثبت ما يفيد ذلك في صحيح من حديث ابن حبان أبي ذر .
قوله : ورفع بعضهم درجات هذا البعض يحتمل أن يراد به من عظمت منزلته عند الله سبحانه من الأنبياء ويحتمل أن يراد به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لكثرة مزاياه المقتضية لتفضيله ، ويحتمل أن يراد به إدريس لأن الله سبحانه أخبرنا بأنه رفعه مكانا عليا ، وقيل : إنهم أولو العزم ، وقيل : إبراهيم ، ولا يخفاك أن الله سبحانه أبهم هذا البعض المرفوع ، فلا يجوز لنا التعرض للبيان له إلا ببرهان من الله سبحانه أو من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ولم يرد ما يرشد إلى ذلك ، فالتعرض لبيانه هو من تفسير القرآن الكريم بمحض الرأي ، وقد عرفت ما فيه من الوعيد الشديد مع كون ذلك ذريعة إلى التفضيل بين الأنبياء وقد نهينا عنه ، وقد جزم كثير من أئمة التفسير أنه نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وأطالوا في ذلك ، واستدلوا بما خصه الله به من المعجزات ومزايا الكمال وخصال الفضل ، وهم بهذا الجزم بدليل لا يدل على المطلوب قد وقعوا في خطرين وارتكبوا نهيين ، وهما تفسير القرآن بالرأي ، والدخول في ذرائع التفضيل بين الأنبياء ، وإن لم يكن ذلك تفضيلا صريحا فهو ذريعة إليه بلا شك ولا شبهة ؛ لأن من جزم بأن هذا البعض المرفوع درجات هو النبي الفلاني انتقل من ذلك إلى التفضيل المنهي عنه ، وقد أغنى الله نبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك بما لا يحتاج معه إلى غيره من الفضائل والفواضل ، فإياك أن تتقرب إليه صلى الله عليه وآله وسلم بالدخول في أبواب نهاك عن دخولها فتعصيه وتسيء وأنت تظن أنك مطيع محسن .
قوله : وآتينا عيسى ابن مريم البينات أي الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة من إحياء الأموات وإبراء المرضى وغير ذلك .
قوله : وأيدناه بروح القدس هو جبريل ، وقد تقدم الكلام على هذا .
قوله : ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم أي من بعد الرسل ، وقيل : من بعد موسى وعيسى ومحمد ، لأن الثاني مذكور صريحا ، والأول والثالث وقعت الإشارة إليهما بقوله : منهم من كلم الله أي : لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا ، فمفعول المشيئة محذوف على القاعدة " ولكن اختلفوا " استثناء من الجملة الشرطية ، أي ولكن الاقتتال ناشئ عن اختلافهم اختلافا عظيما حتى صاروا مللا مختلفة منهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله عدم اقتتالهم بعد هذا الاختلاف ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد لا راد لحكمه ، ولا مبدل لقضائه ، فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
وقد أخرج عن ابن أبي حاتم قتادة في قوله تعالى : فضلنا بعضهم على بعض قال : اتخذ الله إبراهيم خليلا ، وكلم موسى تكليما ، وجعل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له : كن فيكون ، وهو عبد الله وكلمته وروحه ، وآتى داود زبورا ، وآتى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وغفر لمحمد ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد في قوله : منهم من كلم الله قال : كلم الله موسى ، وأرسل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس كافة .
وأخرج عن ابن أبي حاتم في عامر الشعبي ورفع بعضهم درجات قال : محمدا صلى الله عليه وآله وسلم . قوله :
وأخرج عبد بن حميد عن وابن جرير قتادة : ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم يقول : من بعد موسى وعيسى .
وأخرج عن ابن عساكر قال : ابن عباس كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية إذ أقبل علي فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاوية : أتحب عليا ؟ قال : نعم ، قال : إنها ستكون بينكم فتنة هنيهة ، قال معاوية : فما بعد ذلك يا رسول الله ؟ قال : عفو الله ورضوانه ، قال : رضينا بقضاء الله ، فعند ذلك نزلت هذه الآية ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد قال السيوطي : وسنده واه .