في هذه الآية استشهاد على ما تقدم ذكره من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت ، وهمزة الاستفهام لإنكار النفي ، والتقرير المنفي : أي ألم ينته علمك أو نظرك إلى هذا الذي صدرت منه هذه المحاجة .
قال الفراء : " ألم تر " بمعنى هل رأيت : أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم وهو النمروذ بن كوس بن كنعان بن سام بن نوح ، وقيل : إنه النمروذ بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام .
وقوله : أن آتاه الله الملك أي لأن آتاه الله ، أو من أجل أن آتاه الله على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو ، فحاج لذلك ، أو على أنه وضع المحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه من الشكر ، كما يقال : عاديتني لأني أحسنت إليك ، أو وقت أن آتاه الله الملك .
وقوله : إذ قال إبراهيم هو ظرف لحاج ، وقيل : بدل من قوله : أن آتاه الله الملك على الوجه الأخير وهو بعيد .
ربي الذي يحيي ويميت بفتح ياء ربي ، وقرئ بحذفها . قوله :
قوله : أنا أحيي قرأ جمهور القراء أنا أحيي بطرح الألف التي بعد النون من " أنا " في الوصل وأثبتها نافع كما في قول الشاعر : وابن أبي أويس
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني حميدا قد تذربت السناما
أراد إبراهيم عليه السلام أن الله هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد ، وأراد الكافر أنه يقدر أن يعفو عن القتل فيكون ذلك إحياء ، وعلى أن يقتل فيكون ذلك إماتة ، فكان هذا جوابا أحمق لا يصح نصبه في مقابلة حجةإبراهيم ، لأنه أراد غير ما أراده الكافر ، فلو قال له : ربه الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد فهل تقدر على ذلك ؟ لبهت الذي كفر بادئ بدء وفي أول وهلة ، ولكنه انتقل معه إلى حجة أخرى تنفيسا لخناقه ، وإرسالا لعنان المناظرة فقال : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب لكون هذه الحجة لا تجري فيها المغالطة ولا يتيسر للكافر أن يخرج عنها بمخرج مكابرة ومشاغبة .قوله : فبهت الذي كفر بهت الرجل وبهت وبهت : إذا انقطع وسكت متحيرا .
قال : وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى بهت بفتح الباء والهاء . ابن جرير
قال : قرأ ابن جني أبو حيوة " فبهت " بفتح الباء وضم الهاء ، وهي لغة في بهت بكسر الهاء ، قال : وقرأ ابن السميفع " فبهت " بفتح الباء والهاء على معنى : فبهت إبراهيم الذي كفر ، ف " الذي " في موضع نصب ، قال : وقد يجوز أن يكون بهت بفتحهما لغة في بهت .
وحكى قراءة " فبهت " بكسر الهاء ، قال : والأكثر بالفتح في الهاء . أبو الحسن الأخفش
قال ابن عطية : وقد تأول قوم في قراءة من قرأ " فبهت " بفتحهما أنه بمعنى سب وقذف ، وأن النمروذ هو الذي سب حين انقطع ولم يكن له حيلة انتهى .
وقال سبحانه : فبهت الذي كفر ولم يقل فبهت الذي حاج ، إشعارا بأن تلك المحاجة كفر .
وقوله : والله لا يهدي القوم الظالمين تذييل مقرر لمضمون الجملة التي قبله .
وقد أخرج عن ابن أبي حاتم أن الذي حاج علي بن أبي طالب إبراهيم في ربه هو نمروذ بن كنعان .
وأخرجه عن ابن جرير مجاهد وقتادة والربيع والسدي .
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن : أن زيد بن أسلم نمروذ ، وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام ، فخرج أول جبار كان في الأرض إبراهيم عليه السلام يمتار مع من يمتار ، فإذا مر به ناس قال : من ربكم ؟ قالوا : أنت ، حتى مر به إبراهيم ، فقال : من ربك ؟ قال : الذي يحيي ويميت ، قال : أنا أحيي وأميت ، قال : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر ، فرده بغير طعام .
فرجع إبراهيم إلى أهله فمر على كثيب من رمل أصفر فقال : ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي ، فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم ، فأخذ منه فأتى أهله فوضع متاعه ثم نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هي بأجود طعام رآه آخذ ، فصنعت له منه فقربته إليه ، وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام ، فقال : من أين هذا ؟ قالت : من الطعام الذي جئت به ، فعرف أن الله رزقه فحمد الله .
ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن وأتركك على ملكك .
قال : فهل رب غيري ؟ فجاءه الثانية فقال له ذلك فأبى عليه ، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه ، فقال له الملك : فاجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ، فجمع الجبار جموعه فأمر الله الملك ففتح عليه بابا من البعوض وطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها ، فبعثها الله عليهم فأكلت شحومهم وشربت دماءهم فلم يبق إلا العظام ، والملك كما هو لا يصيبه من ذلك شيء ، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه ثم ضرب بهما رأسه ، وكان جبارا أربعمائة سنة ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله ، وهو الذي كان بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من [ ص: 179 ] القواعد .
وأخرج ابن المنذر عن في الآية ، قال : هو ابن عباس نمروذ بن كنعان يزعمون أنه أول من ملك في الأرض أتى برجلين قتل أحدهما وترك الآخر ، فقال : أنا أحيي وأميت .
وأخرج أبو الشيخ عن السدي والله لا يهدي القوم الظالمين قال : إلى الإيمان .