قوله : وإذ ظرف منصوب بفعل محذوف : أي اذكر وقت قول إبراهيم ، وإنما كان الأمر بالذكر موجها إلى الوقت دون ما وقع فيه مع كونه المقصود لقصد المبالغة ؛ لأن طلب وقت الشيء يستلزم طلبه بالأولى ، وهكذا يقال في سائر المواضع الواردة في الكتاب العزيز بمثل هذا الظرف .
وقوله : رب آثره على غيره لما فيه من الاستعطاف الموجب لقبول ما يرد بعده من الدعاء .
وقوله : أرني قال الأخفش : لم يرد رؤية القلب ، وإنما أراد رؤية العين وكذا قال غيره ، ولا يصح أن يراد الرؤية القلبية هنا ؛ لأن مقصود إبراهيم أن يشاهد الإحياء لتحصل له الطمأنينة والهمزة الداخلة على الفعل لقصد تعديته إلى المفعول الثاني وهو الجملة : أعني قوله : كيف تحي الموتى وكيف في محل نصب على التشبيه بالظرف أو بالحال والعامل فيها الفعل الذي بعدها .
وقوله : أولم تؤمن عطف على مقدر أي ألم تعلم ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء حتى تسألني إراءته : قال بلى علمت وآمنت بأنك قادر على ذلك ، ولكن سألت ليطمئن قلبي باجتماع دليل العيان إلى دلائل الإيمان .
وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم لم يكن شاكا في إحياء الموتى قط ، وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من رؤية ما أخبرت عنه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : . ليس الخبر كالمعاينة
وحكى عن طائفة من أهل العلم أنه سأل ذلك لأنه شك في قدرة الله . ابن جرير
واستدلوا بما صح عنه [ ص: 181 ] صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين وغيرهما من قوله : إبراهيم وبما روي عن نحن أحق بالشك من أنه قال : " ما في القرآن عندي آية أرجى منها " . ابن عباس
وأخرجه عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه ، ورجح هذا بعد حكايته له . ابن جرير
قال ابن عطية : وهو عندي مردود ، يعني قول هذه الطائفة ، ثم قال : وأما قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إبراهيم فمعناه : أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به ، ونحن لا نشك ، نحن أحق بالشك من فإبراهيم أحرى أن لا يشك .
فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم .
وأما قول : هي أرجى آية ، فمن حيث إن فيها الإدلال على الله وسؤال الإحياء في الدنيا ، وليست مظنة ذلك . ابن عباس
ويجوز أن نقول هي أرجى آية لقوله : أولم تؤمن أي أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث ، قال : فالشك يبعد على من ثبت قدمه في الإيمان فقط ، فكيف بمرتبة النبوة والخلة ؟ إجماعا ، وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر الألفاظ للآية لم تعط شكا ، وذلك أن الاستفهام بـ " كيف " إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول نحو قولك : كيف علم زيد ؟ وكيف نسج الثوب ؟ ونحو هذا ، ومتى قلت : كيف ثوبك ؟ وكيف زيد ؟ فإنما السؤال عن حال من أحواله . والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة
وقد تكون " كيف " خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه بـ " كيف " نحو قولك : كيف شئت فكن ، ونحو قول : كيف كان بدء الوحي ؟ وهي في هذه الآية استفهام عن هيئة الإحياء ، والإحياء متقرر ، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح ، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح ، مثال ذلك أن يقول مدع : أنا أرفع هذا الجبل ، فيقول المكذب له : أرني كيف ترفعه . البخاري
فهذه طريقة مجاز في العبارة ومعناها تسليم جدل ، كأنه يقول : افرض أنك ترفعه .
فلما كان في عبارة الخليل هذا الاشتراك المجازي خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له : أولم تؤمن قال بلى فكمل الأمر وتخلص من كل شيء ، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة .
قال القرطبي : هذا ما ذكره ابن عطية وهو بالغ ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر ، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث .
وقد أخبر الله سبحانه أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل : فقال : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان [ الإسراء : 65 ] .
وقال اللعين : إلا عبادك منهم المخلصين [ الحجر : 40 ] وإذا لم يكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم ، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها ، واتصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين .
فقوله : " أرني كيف " طلب مشاهدة الكيفية .
قال الماوردي : وليست الألف في قوله : أولم تؤمن ألف الاستفهام ، وإنما هي ألف إيجاب وتقرير كما قال جرير :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
والواو واو الحال ، و " تؤمن " : معناه إيمانا مطلقا دخل فيه فضل إحياء الموتى ، والطمأنينة : اعتدال وسكون .وقال : معنى ليطمئن قلبي ليوقن . ابن جرير
قوله : فخذ أربعة من الطير الفاء جواب شرط محذوف : أي إن أردت ذلك فخذ ، والطير : اسم جمع لطائر كركب لراكب ، أو جمع ، أو مصدر ، وخص الطير بذلك ، قيل : لأنه أقرب أنواع الحيوان إلى الإنسان ، وقيل : إن الطير همته الطيران في السماء ، والخليل كانت همته العلو ، وقيل غير ذلك من الأسباب الموجبة لتخصيص الطير .
وكل هذه لا تسمن ولا تغني من جوع وليست إلا خواطر أفهام وبوادر أذهان لا ينبغي أن تجعل وجوها لكلام الله ، وعللا لما يرد في كلامه ، وهكذا قيل : ما وجه تخصيص هذا العدد ، فإن الطمأنينة تحصل بإحياء واحد ؟ فقيل : إن الخليل إنما سأل واحدا على عدد العبودية ، فأعطي أربعا على قدر الربوبية ، وقيل : إن الطيور الأربعة إشارة إلى الأركان الأربعة التي منها تتركب أركان الحيوان ونحو ذلك من الهذيان .
قوله : فصرهن إليك قرئ بضم الصاد وكسرها ، أي اضممهن إليك وأملهن واجمعهن ، يقال : رجل أصور : إذا كان مائل العنق ، ويقال صار الشيء يصوره : أماله .
قال الشاعر :
الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى جيراننا صور
فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها بنهضي وقد كان اجتماعي يصورها
وقوله : ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا فيه الأمر بالتجزئة ؛ لأن جعل كل جزء على جبل تستلزم تقدم التجزئة .
قال : المعنى ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا ، والجزء النصيب . الزجاج
وقوله : يأتينك في محل جزم على أنه جواب الأمر ، ولكنه بني لأجل نون الجمع المؤنث .
وقوله : سعيا المراد به الإسراع في الطيران أو المشي .
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن قال : إن ابن عباس إبراهيم مر برجل ميت زعموا أنه حبشي على ساحل البحر ، فرأى دواب البحر تخرج فتأكل منه ، وسباع الأرض تأتيه فتأكل منه ، والطير يقع عليه فيأكل منه ، فقال إبراهيم عند ذلك : رب ، هذه دواب البحر تأكل من هذا ، وسباع الأرض والطير ، ثم تميت هذه فتبلى ثم تحييها ، فأرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن يا إبراهيم أني أحيي الموتى ؟ قال بلى يا رب ولكن ليطمئن قلبي يقول : لأرى من آياتك وأعلم أنك قد أجبتني فقال الله : خذ أربعا من الطير واصنع ما صنع ، والطير الذي أخذ : وز ، ورأل ، وديك ، وطاووس ، أخذ نصفين مختلفين ، ثم أتى أربعة أجبل ، فجعل على كل جبل نصفين مختلفين وهو [ ص: 182 ] قوله : ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم تنحى ورءوسها تحت قدميه فدعا باسم الله الأعظم ، فرجع كل نصف إلى نصفه ، وكل ريش إلى طائره ، ثم أقبلت تطير بغير رءوس إلى قدميه تريد رءوسها بأعناقها ، فرفع قدميه فوضع كل طائر منها عنقه في رأسه فعادت كما كانت .
وقد أخرج عبد بن حميد عن وابن جرير قتادة نحوه .
وأخرج أيضا عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن نحوه .
وأخرج عن ابن جرير أنها كانت جيفة حمار . ابن جريج
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن في قوله : ابن عباس ولكن ليطمئن قلبي يقول : أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، وتعطيني إذا سألتك .
وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس فخذ أربعة من الطير قال : الغرنوق ، والطاووس ، والديك ، والحمامة .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد ، قال : الأربعة من الطير : الديك ، والطاووس ، والغراب ، والحمام .
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عباس فصرهن قال : قطعهن .
وأخرج ابن جرير عنه قال : هي بالنبطية شققهن . وابن أبي حاتم
وأخرجا عنه أنه قال : فصرهن أوثقهن .
وأخرج عنه قال : وضعهن على سبعة أجبل ، وأخذ الرءوس بيده فجعل ينظر إلى القطرة تلقى القطرة والريشة تلقى الريشة حتى صرن أحياء ليس لهن رءوس ، فجئن إلى رءوسهن فدخلن فيها . ابن أبي حاتم