ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور
قوله : ولتكن قرأه الجمهور بإسكان اللام ، وقرئ بكسر اللام على الأصل ، ومن في قوله : منكم للتبعيض وقيل : لبيان الجنس . ورجح الأول بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات يختص بأهل العلم الذين يعرفون كون ما يأمرون به معروفا وينهون عنه منكرا .
قال القرطبي : الأول أصح فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية ، وقد عينهم الله سبحانه بقوله : الذين إن مكناهم في الأرض [ الحج : 41 ] الآية . وقرأ ابن الزبير " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم " قال : وهذه الزيادة تفسير من أبو بكر بن الأنباري ابن الزبير وكلام من كلامه غلط فيه بعض الناقلين فألحقه بألفاظ القرآن .
وقد روي أن عثمان قرأها كذلك ولكن لم يكتبها في مصحفه فدل على أنها ليست بقرآن . وفي الآية دليل على ، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة ، وأصل عظيم من أصولها ، وركن مشيد من أركانها ، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها . وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وقوله : يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر من باب عطف الخاص على العام ، إظهارا لشرفهما ، وأنهما الفردان الكاملان من الخير الذي أمر الله عباده بالدعاء إليه ، كما قيل في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة ، وحذف متعلق الأفعال الثلاثة ; أي : يدعون ويأمرون وينهون لقصد التعميم ; أي : كل من وقع منه سبب يقتضي ذلك ، والإشارة في قوله : وأولئك ترجع إلى الأمة باعتبار اتصافها بما ذكر بعدها هم المفلحون أي المختصون بالفلاح ، وتعريف المفلحين للعهد أو للحقيقة التي يعرفها كل أحد .
قوله : ولا تكونوا كالذين تفرقوا هم اليهود والنصارى عند جمهور المفسرين ، وقيل : هم المبتدعة من هذه الأمة ، وقيل : الحرورية ، والظاهر الأول .
والبينات الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة لعدم الاختلاف . قيل : وهذا النهي عن التفرق والاختلاف يختص بالمسائل الأصولية ، وأما المسائل الفروعية الاجتهادية فالاختلاف فيها جائز ، وما زال الصحابة فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم مختلفين في أحكام الحوادث ، وفيه نظر فإنه ما زال في تلك العصور المنكر للاختلاف موجودا وتخصيص بعض مسائل الدين بجواز الاختلاف فيها دون البعض الآخر ليس بصواب ، [ ص: 237 ] فالمسائل الشرعية المساوية الأقدام في انتسابها إلى الشرع .
وقوله : يوم تبيض وجوه منتصب بفعل مضمر ; أي : اذكر ، وقيل : بما دل عليه قوله : لهم عذاب عظيم فإن تقديره استقر لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه ، أي : يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة . ويقال : إن ذلك عند قراءة الكتاب إذا قرأ المؤمن كتابه رأى حسناته فاستبشر وابيض وجهه ، وإذا قرأ الكافر كتابه رأى سيئاته فحزن واسود وجهه .
والتنكير في وجوه للتكثير ; أي : وجوه كثيرة . وقرأ تبيض وتسود بكسر التاءين . يحيى بن وثاب
وقرأ تبياض وتسواد . قوله : أكفرتم أي : فيقال لهم : أكفرتم ، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم ، وهذا تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإجمال ، وقدم بيان حال الكافرين لكون المقام مقام تحذير وترهيب ، قيل : هم الزهري أهل الكتاب ، وقيل : المرتدون ، وقيل : المنافقون ، وقيل : المبتدعون .
وقوله : ففي رحمة الله أي : في جنته ودار كرامته ، عبر عن ذلك بالرحمة إشارة إلى أن العمل لا يستقل بدخول صاحبه الجنة ، بل لا بد من الرحمة ، ومنه حديث وهو في الصحيح . وقوله : لن يدخل أحد الجنة بعمله هم فيها خالدون جملة استئنافية جواب سؤال مقدر .
وتلك إشارة إلى ما تقدم من تعذيب الكافرين وتنعيم المؤمنين . وقوله : نتلوها عليك بالحق جملة حالية ، وبالحق متعلق بمحذوف ; أي : متلبسة بالحق وهو العدل .
وقوله : وما الله يريد ظلما للعالمين جملة تذييلية مقررة لمضمون ما قبلها ، وفي توجه النفي إلى الإرادة الواقعة على النكرة دليل على أنه سبحانه لا يريد فردا من أفراد الظلم الواقعة على فرد من أفراد العالم . والمراد بما في السماوات وما في الأرض مخلوقاته سبحانه ; أي : له ذلك يتصرف فيه كيف يشاء وعلى ما يريد ، وعبر بما تغليبا لغير العقلاء على العقلاء لكثرتهم أو لتنزيل العقلاء منزلة غيرهم .
قال المهدوي : وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين وأنه لا يريد ظلما للعالمين وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم لكون ما في السماوات وما في الأرض في قبضته ، وقيل : هو ابتداء كلام يتضمن البيان لعباده بأن جميع ما في السماوات وما في الأرض له حتى يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره . وقوله : وإلى الله ترجع الأمور أي : لا إلى غيره لا شركة ولا استقلالا .
وقد أخرج ابن مردويه عن قال : أبي جعفر الباقر قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير قال : الخير اتباع القرآن وسنتي . وأخرج عن ابن أبي حاتم أبي العالية قال : كل آية ذكرها الله في القرآن في الأمر بالمعروف فهو الإسلام ، والنهي عن المنكر فهو عبادة الأوثان والشيطان انتهى .
وهو تخصيص بغير مخصص ، فليس في لغة العرب ولا في عرف الشرع ما يدل على ذلك . وأخرج عن ابن أبي حاتم قال : مقاتل بن حيان يدعون إلى الخير أي الإسلام ويأمرون بالمعروف بطاعة ربهم وينهون عن المنكر عن معصية ربهم .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الضحاك في الآية قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وهم الرواة انتهى . ولا أدري ما وجه هذا التخصيص ، فالخطاب في هذه الآية كالخطاب بسائر الأمور التي شرعها الله لعباده وكلفهم بها .
وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أبي هريرة اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، افترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة وتفرقت . وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن معاوية مرفوعا نحوه ، وزاد . كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة
وأخرج الحاكم عن مرفوعا نحوه أيضا ، وزاد عبد الله بن عمرو . وأخرج كلها في النار إلا ملة واحدة ، فقيل له : ما الواحدة ؟ قال : ما أنا عليه اليوم وأصحابي عن ابن ماجه مرفوعا نحوه ، وفيه عوف بن مالك وأخرجه فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار ، قيل : يا رسول الله من هم ؟ قال : الجماعة . أحمد من حديث أنس ، وفيه . قيل : يا رسول الله من تلك الفرقة ؟ قال : الجماعة
وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي الأمر بالكون في الجماعة والنهي عن الفرقة . وأخرج ابن أبي حاتم والخطيب عن في قوله : ابن عباس يوم تبيض وجوه قال : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدع والضلالة .
وأخرجه الخطيب والديلمي عن مرفوعا وأخرجه أيضا مرفوعا ابن عمر في الإبانة عن أبو نصر السجزي أبي سعيد . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في الآية قال : صاروا فرقتين يوم القيامة ، يقال لمن اسود وجهه : أكفرتم بعد إيمانكم ؟ فهو الإيمان الذي كان في صلب أبي بن كعب آدم حيث كانوا أمة واحدة ، وأما الذين ابيضت وجوههم فهم الذين استقاموا على إيمانهم وأخلصوا له الدين فبيض الله وجوههم وأدخلهم في رضوانه وجنته ، وقد روي غير ذلك .