البطانة : مصدر يسمى به الواحد والجمع ، وبطانة الرجل : خاصته الذين يستبطنون أمره ، وأصله البطن الذي هو خلاف الظهر ، وبطن فلان بفلان يبطن بطونا وبطانة : إذا كان خالصا به ، ومنه قول الشاعر :
وهم خلصائي كلهم وبطانتي وهم عيبتي من دون كل قريب
قوله : من دونكم أي : من سواكم قاله الفراء ; أي : من دون المسلمين وهم الكفار ; أي : بطانة كائنة من دونكم ، ويجوز أن يتعلق بقوله : لا تتخذوا .وقوله : لا يألونكم خبالا في محل نصب صفة البطانة ، يقال : لا ألوك جهدا ; أي : لا أقصر . قال امرؤ القيس :
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
قال أوس :
أبني لبينى لستم بيد إلا يدا مخبولة العضد
والجملة مستأنفة مؤكدة للنهي . قوله : قد بدت البغضاء هي شدة البغض كالضراء لشدة الضر .
والأفواه جمع فم . والمعنى : أنها قد ظهرت البغضاء في كلامهم لأنهم لما خامرهم من شدة البغض والحسد أظهرت ألسنتهم ما في صدورهم ، فتركوا التقية وصرحوا بالتكذيب .
أما اليهود فالأمر في ذلك واضح . وأما المنافقون فكان يظهر من فلتات ألسنتهم ما يكشف عن خبث طويتهم .
وهذه الجملة مستأنفة لبيان حالهم وما تخفي صدورهم أكبر لأن فلتات اللسان أقل مما تجنه الصدور ، بل تلك الفلتات بالنسبة إلى ما في الصدور قليلة جدا . ثم إنه سبحانه امتن عليهم ببيان الآيات الدالة على وجوب الإخلاص إن كانوا من أهل العقول المدركة لذلك البيان .
قوله : ها أنتم أولاء جملة مصدرة بحرف التنبيه ; أي : أنتم أولاء الخاطئون في موالاتهم ، ثم بين خطأهم بتلك الموالاة بهذه الجملة التذييلية . فقال : تحبونهم ولا يحبونكم ، وقيل : إن قوله : تحبونهم خبر ثان لقوله أنتم ، وقيل : إن أولاء موصول وتحبونهم صلته أي : تحبونهم لما أظهروا لكم الإيمان أو لما بينكم وبينهم من القرابة ولا يحبونكم لما قد استحكم في صدورهم من الغيظ والحسد .
قوله : وتؤمنون بالكتاب كله أي بجنس الكتاب جميعا . ومحل الجملة النصب على الحال ; أي : لا يحبونكم والحال أنكم مؤمنون بكتب الله سبحانه التي من [ ص: 241 ] جملتها كتابهم ، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم .
وفيه توبيخ لهم شديد ; لأن من بيده الحق أحق بالصلابة والشدة ممن هو على الباطل . وإذا لقوكم قالوا آمنا نفاقا وتقية وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ تأسفا وتحسرا ، حيث عجزوا عن الانتقام منكم .
والعرب تصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان ، ثم أمره الله سبحانه بأن يدعو عليهم ، فقال : قل موتوا بغيظكم وهو يتضمن استمرار غيظهم ما داموا في الحياة حتى يأتيهم الموت وهم عليه ، ثم قال : إن الله عليم بذات الصدور فهو يعلم ما في صدوركم وصدورهم ، والمراد بذات الصدور : الخواطر القائمة بها ، وهو كلام داخل تحت قوله : قل فهو من جملة المقول .
قوله : إن تمسسكم حسنة تسؤهم هذه الجملة مستأنفة لبيان تناهي عداوتهم ، وحسنة وسيئة يعمان كل ما يحسن وما يسوء . وعبر بالمس في الحسنة وبالإصابة في السيئة ، للدلالة على أن مجرد مس الحسنة يحصل به المساءة ، ولا يفرحون إلا بإصابة السيئة ، وقيل : إن المس مستعار لمعنى الإصابة . ومعنى الآية : أن من كانت هذه حالته لم يكن أهلا لأن يتخذ بطانة وإن تصبروا على عداوتهم أو على التكاليف الشاقة وتتقوا موالاتهم ، أو ما حرمه الله عليكم لا يضركم كيدهم شيئا ، يقال : ضاره يضوره ويضيره ضيرا وضيورا : بمعنى ضره يضره ، وبه قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو .
وقرأ الكوفيون وابن عامر ( لا يضركم ) بضم الراء وتشديدها من ضر يضر ، فهو على القراءة الأولى مجزوم على أنه جواب الشرط ، وعلى القراءة الثانية مرفوع على تقدير إضمار الفاء كما في قول الشاعر :
من يفعل الحسنات الله يشكرها
قاله الكسائي وقال والفراء ، : إنه مرفوع على نية التقديم ; أي : لا يضركم أن تصبروا . وحكى سيبويه أبو زيد عن المفضل عن عاصم ( لا يضركم ) بفتح الراء ، وشيئا صفة مصدر محذوف .وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم قال : كان رجال من ابن عباس يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية ، فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم لخوف الفتنة عليهم منهم المسلمين يواصلون رجالا من ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة الآية . وأخرج ابن جرير عنه قال : هم المنافقون . وابن أبي حاتم
وأخرج عن عبد بن حميد مجاهد نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن والطبراني أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : هم الخوارج .
قال السيوطي : وسنده جيد . وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن في قوله : ابن عباس وتؤمنون بالكتاب كله أي : بكتابكم وبكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك ، وهم يكفرون بكتابكم ، فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم .
وأخرج عن ابن أبي حاتم مقاتل إن تمسسكم حسنة يعني النصر على العدو والرزق والخير تسؤهم وإن تصبكم سيئة يعني القتل والهزيمة والجهد .