قوله : بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما إطلاق البشارة على ما هو شر خالص لهم تهكم بهم وقد مر تحقيقه ، وقوله : الذين يتخذون الكافرين أولياء وصف للمنافقين أو منصوب على الذم ؛ أي : يجعلون الكفار أولياء لهم يوالونهم على كفرهم ويمالئونهم على ضلالهم .
وقوله : من دون المؤمنين في محل نصب على الحال ؛ أي : يوالون الكافرين متجاوزين ولاية المؤمنين أيبتغون عندهم العزة هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والجملة معترضة ، قوله : فإن العزة لله جميعا هذه الجملة تعليل لما تقدم من توبيخهم بابتغاء العزة عند الكافرين وجميع أنواع العزة وأفرادها مختص بالله سبحانه ، وما كان منها مع غيره فهو من فيضه وتفضله كما في قوله : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ المنافقون : 8 ] والعزة : الغلبة ، يقال عزه يعزه عزا ؛ إذا غلبه .
وقد نزل عليكم في الكتاب الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق ؛ لأن من أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل ما أنزله الله ، وقيل : إنه خطاب للمنافقين فقط كما يفيده التشديد والتوبيخ ، وقرأ عاصم ، ويعقوب نزل بفتح النون والزاي وتشديدها ، وفاعله ضمير راجع إلى اسم الله تعالى في قوله : فإن العزة لله جميعا وقرأ حميد بتخفيف الزاي مفتوحة مع فتح النون ، وقرأ الباقون بضم النون مع كسر الزاي مشددة على البناء للمجهول .
وقوله : أن إذا سمعتم آيات الله في محل نصب على القراءة الأولى على أنه مفعول ( نزل ) وفي محل رفع على القراءة الثانية على أنه فاعل ، وفي محل رفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله على القراءة الثالثة ، و ( أن ) هي المخففة من الثقيلة ، والتقدير أنه إذا سمعتم آيات الله . والكتاب : هو القرآن .
وقوله : يكفر بها ويستهزأ بها حالان ؛ أي : إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله فأوقع السماع على الآيات ، والمراد سماع الكفر والاستهزاء ، وقوله : فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره أي : أنزل عليكم في الكتاب أنكم عند هذا السماع للكفر والاستهزاء بآيات الله لا تقعدوا معهم ما داموا كذلك حتى يخوضوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بها .
والذي أنزل الله عليهم الكتاب هو قوله تعالى : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره [ الأنعام : 68 ] وقد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود حال سخريتهم بالقرآن واستهزائهم به فنهوا عن ذلك .
[ ص: 337 ] وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية ، كما يقع كثيرا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة ولم يبق في أيديهم سوى قال إمام مذهبنا كذا ، وقال فلان من أتباعه بكذا ، وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا ولا بالوا به بالة وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع وخطب شنيع وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع ، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه الفائل ، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل ، مقدما على الله وعلى كتابه وعلى رسوله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها ، والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم ، فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم كما أوضحنا ذلك في رسالتنا المسماة بـ [ القول المفيد في حكم التقليد ] وفي مؤلفنا المسمى بـ [ أدب الطلب ومنتهى الأرب ] اللهم انفعنا بما علمتنا واجعلنا من المقتدين بالكتاب والسنة وباعد بيننا وبين آراء الرجال المبنية على شفا جرف هار ، يا مجيب السائلين .
قوله : إنكم إذا مثلهم تعليل للنهي ؛ أي : إنكم إن فعلتم ذلك ولم تنتهوا فأنتم مثلهم في الكفر ، قيل : وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر كما في قول القائل :
وكل قرين بالمقارن يقتدي
وهذه الآية محكمة عند جميع أهل العلم إلا ما يروى عن الكلبي فإنه قال : هي منسوخة بقوله تعالى : وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء [ الأنعام : 61 ] وهو مردود فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها .قوله : إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا هذا تعليل لكونهم مثلهم في الكفر ، قيل : وهم القاعدون والمقعود إليهم عند من جعل الخطاب موجها إلى المنافقين ، قوله : الذين يتربصون بكم أي : ينتظرون بكم ما يتجدد ويحدث لكم من خير أو شر ، والموصول في محل نصب على أنه صفة للمنافقين أو بدل منهم فقط دون الكافرين ؛ لأن التربص المذكور هو من المنافقين دون الكافرين ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم ، فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم هذه الجملة والجملة التي بعدها حكاية لتربصهم ؛ أي : إن حصل لكم فتح من الله بالنصر على من يخالفكم من الكفار قالوا لكم ألم نكن معكم في الاتصاف بظاهر الإسلام والتزام أحكامه والمظاهرة والتسويد وتكثير العدد وإن كان للكافرين نصيب من الغلب لكم والظفر بكم قالوا للكافرين ألم نستحوذ عليكم أي : ألم نقهركم ونغلبكم ونتمكن منكم ولكن أبقينا عليكم .
وقيل : المعنى أنهم قالوا للكفار الذين ظفروا بالمسلمين : ألم نستحوذ عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم ؟ والأول أولى ، فإن معنى الاستحواذ : الغلب ، يقال استحوذ على كذا ؛ أي : غلب عليه ، ومنه قوله تعالى : استحوذ عليهم الشيطان ولا يصح أن يقال : ألم نغلبكم حتى هابكم المسلمون ، ولكن المعنى : ألم نغلبكم يا معشر الكافرين ونتمكن منكم فتركناكم وأبقينا عليكم حتى حصل لكم هذا الظفر بالمسلمين ونمنعكم من المؤمنين بتخذيلهم وتثبيطهم عنكم حتى ضعفت قلوبهم عن الدفع لكم وعجزوا عن الانتصاف منكم ، والمراد أنهم يميلون مع من له الغلب والظفر من الطائفتين ويظهرون لهم أنهم كانوا معهم على الطائفة المغلوبة ، وهذا أبعدهم الله ، وشأن من حذا حذوهم من أهل الإسلام من التظهر لكل طائفة بأنه معها على الأخرى ، والميل إلى من معه الحظ من الدنيا في مال أو جاه فيلقاه بالتملق والتودد والخضوع والذلة ، ويلقى من لا حظ له من الدنيا بالشدة والغلظة وسوء الخلق ويزدري به ويكافحه بكل مكروه ، فقبح الله أخلاق أهل النفاق وأبعدها . شأن المنافقين
قوله : فالله يحكم بينكم يوم القيامة بما انطوت عليه ضمائرهم من النفاق والبغض للحق وأهله ، ففي هذا اليوم تنكشف الحقائق وتظهر الضمائر وإن حقنوا في الدنيا دماءهم وحفظوا أموالهم بالتكلم بكلمة الإسلام نفاقا ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا هذا في يوم القيامة إذا كان المراد بالسبيل النصر والغلب ، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة .
قال ابن عطية : قال جميع أهل التأويل : إن المراد بذلك يوم القيامة ، قال ابن العربي : وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه ، وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله يعني قوله : فالله يحكم بينكم يوم القيامة وذلك يسقط فائدته ، إذ يكون تكرارا هذا معنى كلامه ، وقيل : المعنى : إن الله لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين يمحو به دولتهم ويذهب آثارهم ويستبيح بيضتهم كما يفيده الحديث الثابت في الصحيح وقيل : إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين ما داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل ولا تاركين للنهي عن المنكر كما قال تعالى : وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم قال ابن العربي : وهذا نفيس جدا ، وقيل : إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعا ، فإن وجد فبخلاف الشرع .
هذا خلاصة ما قاله أهل العلم في هذه الآية ، وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل ، وقد أخرج ، عبد بن حميد ، عن وابن جرير قتادة في قوله : إن الذين آمنوا ثم كفروا الآية ، قال : هم اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت ، وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت .
وأخرج عبد الرزاق ، ، وعبد بن حميد عنه في الآية قال : هؤلاء وابن جرير اليهود آمنوا بالتوراة ثم كفروا ، [ ص: 338 ] ثم ذكر النصارى فقال ثم آمنوا ثم كفروا يقول : آمنا بالإنجيل ثم كفروا ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم . وأخرج ، عن ابن جرير ابن زيد في الآية قال : هؤلاء المنافقون آمنوا مرتين ثم كفروا مرتين ثم ازدادوا كفرا بعد ذلك .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم عباس في قوله : ثم ازدادوا كفرا قال : تموا على كفرهم حتى ماتوا . وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، عن أبي وائل قال : إن الرجل ليتكلم في المجلس بالكلمة من الكذب ليضحك بها جلساءه فيسخط الله عليهم جميعا ، فذكروا ذلك فقال : صدق لإبراهيم النخعي ، أبو وائل ، أو ليس ذلك في كتاب الله ؟ فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره .
وأخرج ابن المنذر ، عن مجاهد قال : أنزل في سورة الأنعام حتى يخوضوا في حديث غيره ثم ينزل التشديد في سورة النساء إنكم إذا مثلهم وأخرج ابن المنذر ، عن أن الله جامع المنافقين من أهل سعيد بن جبير المدينة والكافرين من أهل مكة الذين خاضوا واستهزءوا بالقرآن في جهنم جميعا .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، عن مجاهد الذين يتربصون بكم قال : هم المنافقون يتربصون بالمؤمنين فإن كان لكم فتح من الله إن أصاب المسلمون من عدوهم غنيمة قال المنافقون ألم نكن قد كنا معكم فأعطونا من الغنيمة مثل ما تأخذون وإن كان للكافرين نصيب يصيبونه من المسلمين ، قال المنافقون للكفار : ألم نستحوذ عليكم ألم نبين لكم أنا على ما أنتم عليه ، قد كنا نثبطهم عنكم . وأخرج ، عن ابن جرير السدي ألم نستحوذ عليكم قال : نغلب عليكم .
وأخرج عبد الرزاق ، ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه ، عن علي أنه قيل له : أرأيت هذه الآية ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون ، فقال : ادنه ادنه ، ثم قال : فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وأخرج عنه في الآية قال : في الآخرة . وأخرج ابن جرير ، ابن جرير وابن المنذر ، عن نحوه . وأخرج ابن عباس ، عبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، عن أبي مالك نحوه أيضا . وأخرج ، عن ابن جرير سبيلا قال : حجة . السدي