قيل : المراد بالخبيث والطيب : الحرام والحلال ، وقيل : المؤمن والكافر ، وقيل : العاصي والمطيع ، وقيل : الرديء والجيد .
والأولى أن الاعتبار بعموم اللفظ فيشمل هذه المذكورات وغيرها مما يتصف بوصف الخبث والطيب من الأشخاص والأعمال والأقوال ، فالخبيث لا يساوي الطيب بحال من الأحوال . قوله : ولو أعجبك كثرة الخبيث قيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقيل : لكل مخاطب يصلح لخطابه بهذا . والمراد نفي الاستواء في كل الأحوال ، ولو في حال كون الخبيث معجبا للرائي للكثرة التي فيه ، فإن هذه الكثرة مع الخبيث في حكم العدم; لأن خبث الشيء يبطل فائدته ، ويمحق بركته ، ويذهب بمنفعته ، والواو إما للحال أو للعطف على مقدر; أي : لا يستوي الخبيث والطيب لو لم تعجبك كثرة الخبيث ، ولو أعجبك كثرة الخبيث كقولك : أحسن إلى فلان وإن أساء إليك; أي : أحسن إليه إن لم يسئ إليك وإن أساء إليك ، وجواب لو محذوف; أي : ولو أعجبك كثرة الخبيث فلا يستويان . قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم أي لا تسألوا عن أشياء لا حاجة لكم بالسؤال عنها ولا هي مما يعنيكم في أمر دينكم ، فقوله : إن تبد لكم تسؤكم في محل جر صفة لأشياء; أي : لا تسألوا عن أشياء متصفة بهذه الصفة من كونها إذا بدت لكم; أي : ظهرت وكلفتم بها ساءتكم ، نهاهم الله عن كثرة مساءلتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن السؤال عما لا يعني ولا تدعو إليه حاجة قد يكون سببا لإيجابه على السائل وعلى غيره .
وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم هذه الجملة من جملة صفة أشياء . والمعنى : لا تسألوا عن أشياء إن تسألوا عنها حين ينزل القرآن ، وذلك مع وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهركم ونزول الوحي عليه قوله : تبد لكم أي تظهر لكم بما يجيب عليكم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو ينزل به الوحي فيكون ذلك سببا للتكاليف الشاقة وإيجاب ما لم يكن واجبا وتحريم ما لم يكن محرما ، بخلاف السؤال عنها بعد انقطاع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه لا إيجاب ولا تحريم يتسبب عن السؤال .
وقد ظن بعض أهل التفسير أن الشرطية الثانية فيها إباحة السؤال مع وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الوحي عليه ، فقال : إن الشرطية الأولى أفادت عدم جواز السؤال ، والثانية أفادت جوازه ، فقال إن المعنى : وإن تسألوا عن غيرها مما مست إليه الحاجة تبد لكم بجواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها ، وجعل الضمير في " عنها " راجعا إلى أشياء غير الأشياء المذكورة ، وجعل ذلك كقوله : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين [ المؤمنون : 12 ] وهو آدم ، ثم قال : ثم جعلناه نطفة [ المؤمنون : 13 ] أي ابن آدم . قوله : عفا الله عنها أي عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى ذلك .
وقيل : المعنى : إن تلك الأشياء التي سألتم عنها هي مما عفا عنه ولم يوجبه عليكم ، فكيف تتسببون بالسؤال لإيجاب ما هو عفو من الله غير لازم ؟ وضمير " عنها " عائد إلى المسألة الأولى ، وإلى أشياء على الثاني على أن تكون جملة " عفا الله عنها " صفة ثالثة لأشياء ، والأول أولى ، لأن الثاني يستلزم أن يكون ذلك المسؤول عنه قد شرعه الله ثم عفا عنه ، ويمكن أن يقال إن العفو بمعنى الترك; أي : تركها الله ولم يذكرها بشيء فلا تبحثوا عنها ، وهذا معنى صحيح لا يستلزم ذلك اللازم الباطل ، ثم جاء سبحانه بصيغة المبالغة في كونه غفورا حليما ليدل بذلك على أنه لا يعاجل من عصاه بالعقوبة لكثرة مغفرته وسعة حلمه . قوله : قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين الضمير يرجع إلى المسألة المفهومة من لا تسألوا لكن ليست هذه المسألة بعينها ، بل مثلها في كونها مما لا حاجة إليه ولا توجبه الضرورة الدينية ثم لم يعملوا بها ، بل أصبحوا بها كافرين; أي : ساترين لها تاركين للعمل بها ، وذلك كسؤال قوم صالح الناقة ، وأصحاب عيسى المائدة ، ولا بد من تقييد النهي في هذه الآية بما لا تدعو إليه حاجة كما قدمنا ، لأن الأمر الذي تدعو الحاجة إليه في أمور الدين والدنيا قد أذن الله بالسؤال عنه فقال : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ النحل : 43 ] وقال صلى الله عليه وآله وسلم : . قاتلهم الله ألا سألوا فإنما شفاء العي السؤال
ما جعل الله من بحيرة هذا كلام مبتدأ يتضمن الرد على أهل الجاهلية فيما ابتدعوه ، وجعل ههنا بمعنى سمى كما قال : قوله : إنا جعلناه قرآنا عربيا [ الزخرف : 3 ] . والبحيرة : فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة والذبيحة ، وهي مأخوذة من البحر ، وهو شق الأذن .
قال : البحيرة هي التي خليت بلا راع ، قيل : هي التي يجعل درها للطواغيت فلا يحتلبها أحد من الناس ، وجعل شق أذنها علامة لذلك . وقال ابن سيده : كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت ، وقيل : إن الناقة إذا نتجت خمسة أبطن ، فإن كان الخامس ذكرا بحروا أذنه فأكله الرجال والنساء ، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها ، وقيل : إذا نتجت الناقة [ ص: 398 ] خمسة أبطن من غير تقييد بالإناث شقوا أذنها وحرموا ركوبها ودرها . والسائبة : الناقة تسيب ، أو البعير يسيب نذر على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزلة ، فلا يحبس عن رعي ولا ماء ، ولا يركبه أحد قاله أبو عبيد . قال الشاعر : الشافعي
وسائبة لله تنمي تشكرا إن الله عافى عامرا ومجاشعا
وقيل : هي التي تسيب لله فلا قيد عليها ولا راعي لها ، ومنه قول الشاعر :عقرتم ناقة كانت لربي مسيبة فقوموا للعقاب
والحام : الفحل الحامي ظهره عن أن يركب ، وكانوا إذا ركب ولد الفحل قالوا حمى ظهره فلا يركب ، قال الشاعر :
حماها أبو قابوس في عز ملكه كما قد حمى أولاد أولاده الفحل
وقد صارت هذه المقالة التي قالتها الجاهلية نصب أعين المقلدة وعصاهم التي يتوكأون عليها إن دعاهم داعي الحق وصرخ لهم صارخ الكتاب والسنة فاحتجاجهم بمن قلدوه ممن هو مثلهم في التعبد بشرع الله مع مخالفة قوله لكتاب الله أو لسنة رسوله هو كقول هؤلاء ، وليس الفرق إلا في مجرد العبارة اللفظية ، لا في المعنى الذي عليه تدور الإفادة والاستفادة ، اللهم غفرا . وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن في الآية : قال الخبيث هم المشركون والطيب هم المؤمنون . السدي
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال : لا تسألوا عن أشياء . وأخرج خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط ، فقال رجل : من أبي ؟ فقال فلان ، فنزلت هذه الآية : وغيره نحوه من حديث البخاري وقد بين هذا السائل في روايات أخر أنه ابن عباس ، وأنه قال : من أبي ؟ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أبوك عبد الله بن حذافة حذافة .
وأخرج عن ابن حبان أبي هريرة وذلك أن هذه الآية : أعني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب فقال : يا أيها الناس إن الله قد افترض عليكم الحج ، فقام رجل ، فقال : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت عنه فأعادها ثلاث مرات ، فقال : لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما قمتم بها ، ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم لا تسألوا عن أشياء نزلت في ذلك . وقد أخرج عنه نحو هذا ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه . وأخرج ابن مردويه عن نحوه أيضا . وأخرج ابن عباس أحمد والترمذي وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم وابن مردويه عن علي نحوه ، وكل هؤلاء صرحوا في أحاديثهم أن الآية نزلت في ذلك .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن قال : كانوا يسألون عن الشيء وهو لهم حلال ، فما زالوا يسألون حتى يحرم عليهم ، وإذا حرم عليهم وقعوا فيه . وأخرج سعد بن أبي وقاص ابن المنذر عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : . أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أبي ثعلبة الخشني . وأخرج إن الله حد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن في قوله : ابن عباس لا تسألوا عن أشياء قال : البحيرة والسائبة والوصيلة والحام .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن قال : البحيرة التي يمنع درها للطواغيت ولا يحلبها أحد من الناس ، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء ، والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى . وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر ، والحامي : فحل الإبل يضرب الضراب المعدود ، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي . سعيد بن المسيب
وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق وابن أبي حاتم علي بن أبي طلحة عن قال : البحيرة الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس ، فإن كان ذكرا [ ص: 399 ] ذبحوه فأكله الرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى جدعوا آذانها فقالوا : هذه بحيرة ، وأما السائبة فكانوا يسيبون من أنعامهم لآلهتهم لا يركبون لها ظهرا ، ولا يحلبون لها لبنا ، ولا يجزون لها وبرا ، ولا يحملون عليها شيئا ، وأما الوصيلة فالشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع ، فإن كان ذكرا أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى استحيوها ، وإن كان ذكرا أو أنثى في بطن استحيوهما وقالوا : وصلته أخته فحرمته علينا . وأما الحام فالفحل من الإبل إذا ولد لولده قالوا : حمى هذا ظهره فلا يحملون عليه شيئا ، ولا يجزون له وبرا ، ولا يمنعونه من حمى ولا من حوض يشرب منه ، وإن كان الحوض لغير صاحبه . ابن عباس
وأخرج نحوه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق . العوفي