والفاء في فقد كذبوا جواب شرط مقدر : أي إن كانوا معرضين عنها فقد كذبوا بما هو أعظم من ذلك وهو الحق لما جاءهم قيل : المراد بالحق هنا القرآن ، وقيل : محمد صلى الله عليه وآله وسلم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون أي أخبار الشيء الذي كانوا به يستهزئون وهو القرآن أو محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، على أن " ما " عبارة عن ذلك تهويلا للأمر وتعظيما له : أي سيعرفون أن هذا الشيء الذي استهزؤوا به ليس بموضع للاستهزاء ، وذلك عند إرسال عذاب الله عليهم ، كما يقال : اصبر فسوف يأتيك الخبر عند إرادة الوعيد والتهديد ، وفي لفظ الأنباء ما يرشد إلى ذلك فإنه لا يطلق إلا على خبر عظيم .
قوله : ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن كلام مبتدأ لبيان ما تقدمه ، والهمزة للإنكار ، وكم يحتمل أن تكون الاستفهامية وأن تكون الخبرية وهي معلقة لفعل الرؤية عن العمل فيما بعده ، و من قرن تمييز ، والقرن يطلق على أهل كل عصر ، سموا بذلك لاقترانهم : أي ألم يعرفوا بسماع الأخبار ومعاينة الآثار كم أهلكنا من قبلهم من الأمم الموجودة في عصر بعد عصر لتكذيبهم أنبياءهم .
وقيل : القرن : مدة من الزمان .
وهي ستون عاما أو سبعون أو ثمانون أو مائة على اختلاف الأقوال ، فيكون ما في الآية على تقدير مضاف محذوف : أي من أهل قرن .
قوله : مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم مكن له في الأرض جعل له مكانا فيها ، ومكنه في الأرض : أثبته فيها ، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : كيف ذلك ، وقيل : إن هذه الجملة صفة لقرن ، والأول أولى ، و ما في ما لم نمكن نكرة موصوفة بما بعدها : أي مكناهم تمكينا لم نمكنه لكم ، والمعنى : أنا أعطينا القرون الذين هم قبلكم ما لم نعطكم من الدنيا وطول الأعمار وقوة الأبدان وقد أهلكناهم جميعا ، فإهلاككم وأنتم دونهم بالأولى .
قوله : وأرسلنا السماء عليهم مدرارا يريد المطر الكثير ، عبر عنه بالسماء ، لأنه ينزل من السماء ، ومنه قول الشاعر :
إذا نزل السماء بأرض قوم
والمدرار : صيغة مبالغة تدل على الكثرة كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور ، وميناث للتي تلد الإناث ، يقال در اللبن يدر : إذا أقبل على الحالب بكثرة ، وانتصاب مدرارا على الحال ، وجريان الأنهار من تحتهم معناه من تحت أشجارهم ومنازلهم : أي أن الله وسع عليهم النعم بعد التمكين لهم في الأرض فكفروها ، فأهلكهم الله بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم أي من بعد إهلاكهم قرنا آخرين فصاروا بدلا من الهالكين ، وفي هذا بيان لكمال قدرته سبحانه وقوة سلطانه وأنه يهلك من يشاء ويوجد من يشاء .قوله : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين في هذه الجملة بيان شدة صلابتهم في الكفر ، وأنهم لا يؤمنون ولو أنزل الله على رسوله كتابا مكتوبا في قرطاس بمرأى منهم ومشاهدة فلمسوه بأيديهم حتى يجتمع لهم إدراك الحاستين : حاسة البصر ، وحاسة اللمس لقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ولم يعملوا بما شاهدوا ولمسوا ، وإذا كان هذا حالهم في المرئي المحسوس ، فكيف فيما هو مجرد وحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بواسطة ملك لا يرونه ولا يحسونه ؟ والكتاب مصدر بمعنى الكتابة ، والقرطاس : الصحيفة .
قوله : وقالوا لولا أنزل عليه ملك هذه الجملة مشتملة على نوع آخر من أنواع جحدهم لنبوته - صلى الله عليه وآله وسلم - وكفرهم بها : أي قالوا هلا أنزل الله عليك ملكا نراه ويكلمنا أنه نبي حتى نؤمن به ونتبعه ؟ كقولهم : لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا [ الفرقان : 7 ] .
[ ص: 410 ] ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر أي لو أنزلنا ملكا على الصفة التي اقترحوها بحيث يشاهدونه ويخاطبونه ويخاطبهم لقضي الأمر أي لأهلكناهم إذ لم يؤمنوا عند نزوله ورؤيتهم له ، لأن مثل هذه الآية البينة ، وهي نزول الملك على تلك الصفة إذا لم يقع الإيمان بعدها فقد استحقوا الإهلاك والمعالجة بالعقوبة ثم لا ينظرون أي لا يمهلون بعد نزوله ومشاهدتهم له ، وقيل : إن المعنى : أن الله سبحانه لو أنزل ملكا مشاهدا لم تطق قواهم البشرية أن يبقوا بعد مشاهدته أحياء ، بل تزهق أرواحهم عند ذلك فيبطل ما أرسل الله له رسله وأنزل به كتبه من هذا التكليف الذي كلف به عباده لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ الكهف : 7 ] .
قوله : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا أي لو جعلنا الرسول إلى النبي ملكا يشاهدونه ويخاطبونه لجعلنا ذلك الملك رجلا ، لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك على صورته التي خلقه الله عليها إلا بعد أن يتجسم بالأجسام الكثيفة المشابهة لأجسام بني آدم ، لأن كل جنس يأنس بجنسه ، فلو جعل الله سبحانه الرسول إلى البشر أو الرسول إلى رسوله ملكا مشاهدا مخاطبا لنفروا منه ولم يأنسوا به ، ولداخلهم الرعب وحصل معهم من الخوف ما يمنعهم من كلامه ومشاهدته ، هذا أقل حال فلا تتم المصلحة من الإرسال .
وعند أن يجعله الله رجلا : أي على صورة رجل من بني آدم ليسكنوا إليه ويأنسوا به سيقول الكافرون إنه ليس بملك وإنما هو بشر ، ويعودون إلى مثل ما كانوا عليه .
قوله : وللبسنا عليهم ما يلبسون أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم لأنهم إذا رأوه في صورة إنسان قالوا هذا إنسان وليس بملك ، فإن استدل لهم بأنه ملك كذبوه .
قال : المعنى للبسنا عليهم : أي على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم ، وكانوا يقولون لهم : إنما الزجاج محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق ، فيلبسون عليهم بهذا ويشككونهم ، فأعلم الله عز وجل أنه لو نزل ملكا في صورة رجل لوجدوا سبيلا إلى اللبس كما يفعلون .
واللبس : الخلط ، يقال : لبست عليه الأمر ألبسه لبسا : أي خلطته ، وأصله التستر بالثوب ونحوه .
ثم قال سبحانه مؤنسا لنبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - ومسليا له ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون يقال : حاق الشيء يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا نزل : أي فنزل ما كانوا به يستهزئون ، وأحاط بهم : وهو الحق حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به .
11 - قل سيروا في الأرض أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين سافروا في الأرض وانظروا آثار من كان قبلكم لتعرفوا ما حل بهم من العقوبات ، وكيف كانت عاقبتهم بعدما كانوا فيه من النعيم العظيم الذي يفوق ما أنتم فيه ، فهذه ديارهم خاربة وجناتهم مغبرة وأراضيهم مكفهرة ، فإذا كانت عاقبتهم هذه العاقبة فأنتم بهم لاحقون وبعد هلاكهم هالكون .
وقد أخرج عن ابن أبي حاتم ، قتادة ، في قوله : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين يقول : ما يأتيهم من شيء من كتاب الله إلا أعرضوا عنه ، وفي قوله : فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون يقول : سيأتيهم يوم القيامة أنباء ما استهزؤوا به من كتاب الله عز وجل .
وأخرج عن ابن أبي حاتم ، أبي مالك في قوله : من قرن قال : أمة .
وأخرج عبد الرزاق ، ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم يقول : أعطيناهم ما لم نعطكم .
وأخرج ابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن في قوله : ابن عباس ، وأرسلنا السماء عليهم مدرارا يقول : يتبع بعضها بعضا .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن هارون التيمي في الآية قال : المطر في إبانه .
وأخرج ، ابن جرير من طريق وابن أبي حاتم ، عن العوفي في قوله : ابن عباس ، ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم يقول : لو أنزلنا من السماء صحفا فيها كتاب فلمسوه بأيديهم لزادهم ذلك تكذيبا .
وأخرج ، ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : فلمسوه بأيديهم قال : فمسوه ونظروا إليه لم يصدقوا به .
وأخرج ابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم ، محمد بن إسحاق قال : دعا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فيما بلغني ، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك ، فأنزل الله وقالوا لولا أنزل عليه ملك الآية .
وأخرج ، عبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : وقالوا لولا أنزل عليه ملك قال : ملك في صورة رجل ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر لقامت الساعة .
وأخرج عبد الرزاق ، ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : لقضي الأمر يقول : لو أنزل الله ملكا ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب .
وأخرج ، ابن جرير ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن في قوله : ابن عباس ، ولو أنزلنا ملكا قال : ولو أتاهم ملك في صورته لقضي الأمر لأهلكناهم ثم لا ينظرون لا يؤخرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا يقول : لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل ، لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة وللبسنا عليهم ما يلبسون يقول : لخلطنا عليهم ما يخلطون .
وأخرج ، عبد بن حميد عن وابن جرير ، مجاهد في قوله : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا قال : في صورة رجل في خلق رجل .
وأخرج عبد الرزاق ، ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا يقول : في صورة آدمي .
وأخرج عن ابن جرير ، ابن زيد نحوه .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم ، : ابن عباس وللبسنا عليهم يقول : [ ص: 411 ] شبهنا عليهم .
وأخرج ، ابن جرير ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن في الآية قال : شبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم . السدي ،
وأخرج ابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم ، محمد بن إسحاق قال : مر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما بلغني بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل بن هشام فهمزوه واستهزؤوا به فغاظه ذلك ، فأنزل الله : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون .