أنزل الله هذه الآية ردا على الكفار لما أنكروا ما ضربه سبحانه من الأمثال كقوله : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا [ البقرة : 17 ] وقوله : أو كصيب من السماء [ البقرة : 19 ] فقالوا الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال .
وقال [ ص: 40 ] الرازي : إنه تعالى لما بين بالدليل كون القرآن معجزا أورد هاهنا شبهة أوردها الكفار قدحا في ذلك وأجاب عنها ، وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل والعنكبوت والنمل ، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلا عن كونه معجزا .
وأجاب الله عنها بأن صغر هذه الأشياء لا تقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملا على حكمة بالغة انتهى .
ولا يخفاك أن تقرير هذه الشبهة على هذا الوجه وإرجاع الإنكار إلى مجرد الفصاحة لا مستند له ولا دليل عليه ، وقد تقدمه إلى شيء من هذا صاحب الكشاف ، والظاهر ما ذكرناه أولا لكون هذه الآية جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلهما ، ولا يستلزم استنكارهم لضرب الأمثال بالأشياء المحقرة أن يكون ذلك لكونه قادحا في الفصاحة والإعجاز .
والحياء : تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم ، كذا في الكشاف ، وتبعه الرازي في مفاتيح الغيب .
وقال القرطبي : أصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح ، وهذا محال على الله انتهى .
وقد اختلفوا في تأويل ما في هذه الآية من ذكر الحياء فقيل : ساغ ذلك لكونه واقعا في الكلام المحكي عن الكفار ، وقيل : هو من باب المشاكلة كما تقدم ، وقيل : هو جار على سبيل التمثيل .
قال في الكشاف : مثل تركه تخييب العبد وأنه لا يرد يديه صفرا من عطائه لكرمه بترك من يترك رد المحتاج إليه حياء منه انتهى .
وقد قرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية عنه ويستحي بياء واحدة وهي لغة تميم وبكر بن وائل ، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت ، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت ، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين .
وضرب المثل : اعتماده وصنعه .
وما في قوله : ما بعوضة إبهامية أي موجبة لإبهام ما دخلت عليه حتى يصير أعم مما كان عليه وأكثر شيوعا في أفراده ، وهي في موضع نصب على البدل من قوله : مثلا و بعوضة نعت لها لإبهامها ، قاله الفراء وثعلب ، وقيل : إنها زائدة ، و ( بعوضة ) بدل من مثل . والزجاج
ونصب بعوضة في هذين الوجهين ظاهر ، وقيل : إنها منصوبة بنزع الخافض ، والتقدير : أن يضرب مثلا ما بين بعوضة فحذف لفظ بين .
وقد روي هذا عن وقيل : إن يضرب بمعنى يجعل فتكون ( بعوضة ) المفعول الثاني . الكسائي ،
وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة " بعوضة " بالرفع وهي لغة تميم . ورؤبة بن العجاج
قال أبو الفتح : وجه ذلك أن ما اسم بمنزلة الذي ، وبعوضة رفع على إضمار المبتدأ ، ويحتمل أن تكون ما استفهامية كأنه قال تعالى : ما بعوضة فما فوقها حتى لا يضرب المثل به ، بل يدان لمثل بما هو أقل من ذلك بكثير ، والبعوضة فعولة من بعض : إذا قطع ، يقال : بعض وبضع بمعنى ، والبعوض : البق ، الواحدة بعوضة ، سميت بذلك لصغرها قاله الجوهري وغيره .
وقوله : فما فوقها قال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما .
فما فوقها والله أعلم ما دونها ، أي أنها فوقها في الصغر كجناحها .
قال : وهذا كقولك في الكلام أتراه قصيرا فيقول القائل : أو فوق ذلك أي أقصر مما ترى . الكسائي
ويمكن أن يراد فما زاد عليها في الكبر .
وقد قال بذلك جماعة .
قوله : فأما الذين آمنوا أما حرف فيه معنى الشرط ، وقدره بمهما يكن من شيء فكذا . سيبويه
وذكر صاحب الكشاف أن فائدته في الكلام أنه يعطيه فضل توكيد وجعل تقدير دليلا على ذلك . سيبويه
والضمير في أنه راجع إلى المثل .
و الحق الثابت ، وهو المقابل للباطل والحق واحد الحقوق ، والمراد هنا الأول .
وقد اختلف النحاة في " ماذا " فقيل : هي بمنزلة اسم واحد بمعنى : أي شيء أراد الله ، فتكون في موضع نصب بأراد .
قال ابن كيسان : وهو الجيد .
وقيل : ما اسم تام في موضع رفع بالابتداء ، وذا بمعنى الذي ، وهو خبر المبتدأ مع صلته ، وجوابه يكون على الأول منصوبا وعلى الثاني مرفوعا .
والإرادة نقيض الكراهة ، وقد اتفق المسلمون على أنه يجوز إطلاق هذا اللفظ على الله سبحانه .
و مثلا قال ثعلب : منصوب على القطع ، والتقدير : أراد مثلا .
وقال ابن كيسان : هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال ، وهذا أقوى من الأول .
وقوله : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا هو كالتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بأما ، فهو خبر من الله سبحانه .
وقيل : هو حكاية لقول الكافرين كأنهم قالوا : ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى ؟ وليس هذا بصحيح ، فإن الكافرين لا يقرون بأن في القرآن شيئا من الهداية ، ولا يعترفون على أنفسهم بشيء من الضلالة .
قال القرطبي : ولا خلاف أن قوله : وما يضل به إلا الفاسقين من كلام الله سبحانه .
وقد نقح البحث الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب في هذا الموضع تنقيحا نفيسا ، وجوده وطوله وأوضح فروعه وأصوله ، فليرجع إليه فإنه مفيد جدا .
وأما صاحب الكشاف فقد اعتمد هاهنا على عصاه التي يتوكأ عليها في تفسيره ، فجعل إسناد الإضلال إلى الله سبحانه بكونه سببا ، فهو من الإسناد المجازي إلى ملابس للفاعل الحقيقي .
وحكى القرطبي عن أهل الحق من المفسرين أن المراد بقوله : يضل يخذل .
والفسق : الخروج عن الشيء ، يقال : فسقت الرطبة : إذا خرجت عن قشرها .
والفأرة من جحرها ، ذكر معنى هذا الفراء .
وقد استشهد في كتاب الزاهر له على معنى الفسق بقول أبو بكر بن الأنباري : رؤبة بن العجاج
يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا
وقد زعم أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسقا ، وهذا مردود عليه ، فقد حكى ذلك عن العرب وأنه من كلامهم جماعة من أئمة اللغة ابن الأعرابي كابن فارس والجوهري وغيرهم . وابن الأنباريوقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : الحديث . خمس فواسق
وقال في [ ص: 41 ] الكشاف : الفسق الخروج عن القصد ، ثم ذكر عجز بيت رؤبة المذكور ، ثم قال : : الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة انتهى . والفاسق في الشريعة
وقال القرطبي : والفسق في عرف الاستعمال الشرعي : الخروج من طاعة الله عز وجل ، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان انتهى .
وهذا هو أنسب بالمعنى اللغوي ، ولا وجه لقصره على بعض الخارجين دون بعض .
قال الرازي في تفسيره : واختلف أهل القبلة هل هو مؤمن أو كافر ؟ فعند أصحابنا أنه مؤمن ، وعند الخوارج أنه كافر ، وعند المعتزلة لا مؤمن ولا كافر ، واحتج المخالف بقوله تعالى : بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان [ الحجرات : 11 ] وقوله : إن المنافقين هم الفاسقون [ التوبة : 67 ] وقوله : حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان [ الحجرات : 7 ] وهذه المسألة طويلة مذكورة في علم الكلام انتهى .
وقوله : الذين ينقضون في محل نصب وصفا للفاسقين .
والنقض : إفساد ما أبرم من بناء أو حبل أو عهد ، والنقاضة : ما نقض من حبل الشعر .
والعهد : قيل : هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره ، وقيل : هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسن رسله ، ونقضهم ذلك : ترك العمل به ، وقيل : بل هو نصب الأدلة على وحدانيته بالسماوات والأرض وسائر مخلوقاته ، ونقضه : ترك النظر فيه ، وقيل : هو ما عهده إلى الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس .
والميثاق : العهد المؤكد باليمين مفعال من الوثاقة وهي الشدة في العقد والربط ، والجمع المواثيق والمياثيق ، وأنشد : ابن الأعرابي
حمى لا يحل الدهر إلا بإذننا ولا نسأل الأقوام عهد المياثق
والقطع معروف ، والمصدر في الرحم القطيعة ، وقطعت الحبل قطعا ، وقطعت النهر قطعا .
و " ما " في قوله : ما أمر الله به في موضع نصب بـ يقطعون و أن يوصل في محل نصب بأمر .
ويحتمل أن يكون بدلا من " ما " ، أو من الهاء في " به " .
واختلفوا ما هو الشيء الذي أمر الله بوصله : فقيل : الأرحام ، وقيل : أمر أن يوصل القول بالعمل ، وقيل : أمر أن يوصل التصديق بجميع شرائعه وحدوده التي أمر في كتبه المنزلة وعلى ألسن رسله بالمحافظة عليها فهي عامة ، وبه قال الجمهور وهو الحق .
والمراد بالفساد في الأرض الأفعال والأقوال المخالفة لما أمر الله به ، كعبادة غيره والإضرار بعباده وتغيير ما أمر بحفظه ، وبالجملة فكل ما خالف الصلاح شرعا أو عقلا فهو فساد .
والخسران : النقصان ، والخاسر ، هو الذي نقص نفسه من الفلاح والفوز ، وهؤلاء لما استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل كان عملهم فسادا لما نقصوا أنفسهم من الفلاح والربح .
وقد أخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم وناس من الصحابة قال : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين قوله : ابن مسعود مثلهم كمثل الذي استوقد نارا [ البقرة : 17 ] وقوله : أو كصيب من السماء [ البقرة : 19 ] قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا الآية .
وأخرج الواحدي في تفسيره عن قال : إن الله ذكر آلهة المشركين فقال : ابن عباس وإن يسلبهم الذباب شيئا [ الحج : 73 ] وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت ، فقالوا : أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد ، أي شيء كان يصنع بهذا ؟ فأنزل الله إن الله لا يستحيي [ الحج : 73 ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم قتادة نحو قول . ابن عباس
وأخرج عن ابن أبي حاتم الحسن قال : لما نزلت ياأيها الناس ضرب مثل قال المشركون : ما هذا من الأمثال فيضرب ؟ فأنزل الله هذه الآية .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم أبي العالية في قوله تعالى : فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم قال : يؤمن به المؤمن ، ويعلمون أنه الحق من ربهم ويهديهم الله به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به .
وأخرج عن ابن جرير وناس من الصحابة في قوله : ابن مسعود يضل به كثيرا يعني المنافقين ويهدي به كثيرا يعني المؤمنين وما يضل به إلا الفاسقين قال : هم المنافقون .
وفي قوله : ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه قال : هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه .
وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس وما يضل به إلا الفاسقين يقول : يعرفه الكافرون فيكفرون به .
وأخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم قال : سعد بن أبي وقاص الحرورية هم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، وكان يسميهم الفاسقين .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : ما نعلم الله أوعد في ذنب ما أوعد في نقض هذا الميثاق ، فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فليوف به الله . وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث ثابتة في الصحيح وغيره من طريق جماعة من الصحابة النهي عن نقض العهد والوعيد الشديد عليه .
وأخرج عبد بن حميد عن وابن جرير قتادة في قوله : ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل قال : الرحم والقرابة .
وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : السدي ويفسدون في الأرض قال : يعملون فيها بالمعصية .
وأخرج ابن المنذر عن مقاتل في قوله : أولئك هم الخاسرون يقول : هم أهل النار .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم قال : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام مثل خاسر ومسرف وظالم ومجرم وفاسق فإنما يعني به الكفر ، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذم . ابن عباس