والتضرع من الضراعة ، وهي الذلة والخشوع والاستكانة ، والخفية : الإسرار به ، فإن ذلك أقطع لعرق الرياء ، وأحسم لباب ما يخالف الإخلاص ، ثم علل ذلك بقوله : إنه لا يحب المعتدين أي المجاوزين لما أمروا به في الدعاء وفي كل شيء ، فمن جاوز ما أمره الله به في شيء من الأشياء فقد اعتدى ، والله لا يحب المعتدين ، وتدخل المجاوزة في الدعاء في هذا العموم دخولا أوليا .
ومن : أن يسأل الداعي ما ليس له كالخلود في الدنيا ، أو إدراك ما هو محال في نفسه ، أو بطلب الوصول إلى منازل الأنبياء في الآخرة أو يرفع صوته بالدعاء صارخا به . الاعتداء في الدعاء
قوله : ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها نهاهم الله سبحانه عن الفساد في الأرض بوجه من الوجوه قليلا كان أو كثيرا ، ومنه قتل الناس وتخريب منازلهم وقطع أشجارهم وتغوير أنهارهم .
ومن الفساد في الأرض الكفر بالله والوقوع في [ ص: 480 ] معاصيه ، ومعنى بعد إصلاحها : بعد أن أصلحها الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتقرير الشرائع .
قوله : وادعوه خوفا وطمعا إعرابهما يحتمل الوجهين المتقدمين في تضرعا وخفية وفيه أنه ، فإنه إذا كان عند الدعاء جامعا بين الخوف والرجاء ظفر بمطلوبه . يشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفا وجلا طامعا في إجابة الله لدعائه
والخوف : الانزعاج من المضار التي لا يؤمن من وقوعها ، والطمع : توقع حصول الأمور المحبوبة .
قوله : إن رحمة الله قريب من المحسنين هذا بأي نوع من الأنواع كان إحسانهم ، وفي هذا ترغيب للعباد إلى الخير وتنشيط لهم ، فإن قرب هذه الرحمة التي يكون بها الفوز بكل مطلب مقصود لكل عبد من عباد الله . إخبار من الله سبحانه بأن رحمته قريبة من عباده المحسنين
وقد اختلف أئمة اللغة والإعراب في وجه تذكير خبر " رحمة الله " حيث قال : قريب ولم يقل قريبة ، فقال : إن الرحمة مؤولة بالرحم لكونها بمعنى العفو والغفران ، ورجح هذا التأويل الزجاج النحاس .
وقال : الرحمة مصدر بمعنى الترحم ، وحق المصدر التذكير . النضر بن شميل
وقال الأخفش سعيد : أراد بالرحمة هنا المطر ، وتذكير بعض المؤنث جائز ، وأنشد :
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل أبقالها
وقال أبو عبيدة : تذكير " قريب " على تذكير المكان : أي مكان قريب .قال : وهذا خطأ ، ولو كان كما قال لكان قريب منصوبا كما تقول : إن زيدا قريبا منك . علي بن سليمان الأخفش
وقال الفراء : إن القريب إذا كان بمعنى المسافة فيذكر ويؤنث ، وإن كان بمعنى النسب فيؤنث بلا اختلاف بينهم .
وروي عن الفراء أنه قال : يقال في النسب قريبة فلان ، وفي غير النسب يجوز التذكير والتأنيث فيقال : دارك عنا قريب وفلانة منا قريب .
قال الله تعالى : وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ( الأحزاب : 63 ) ومنه قول امرئ القيس :
لك الويل أن أمسني ولا أم هاشم قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
قوله : " وهو الذي يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته " عطف على قوله : يغشي الليل النهار يتضمن ذكر نعمة من النعم التي أنعم بها على عباده مع ما في ذلك من الدلالة على وحدانيته وثبوت إلاهيته .
ورياح جمع ريح ، وأصل ريح روح ، وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو " نشرا " بضم النون والشين جمع ناشر على معنى النسب : أي ذات نشر .
وقرأ الحسن وقتادة ، وابن عامر " نشرا " بضم النون وإسكان الشين من نشر .
وقرأ الأعمش وحمزة " نشرا " بفتح النون وإسكان الشين على المصدر ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال ، ومعنى هذه القراءات يرجع إلى النشر الذي هو خلاف الطي فكأن الريح مع سكونها كانت مطوية ثم ترسل من طيها فتصير كالمنفتحة . والكسائي
وقال أبو عبيدة : معناه متفرقة في وجوهها على معنى ننشرها هاهنا وهاهنا .
وقرأ عاصم بشرا بالباء الموحدة وإسكان الشين جمع بشير : أي الرياح تبشر بالمطر ، ومثله قوله تعالى : يرسل الرياح مبشرات ( الروم : 46 ) .
قوله : بين يدي رحمته أراد بالرحمة هنا المطر : أي قدام رحمته ، والمعنى : . أنه سبحانه يرسل الرياح ناشرات أو مبشرات بين يدي المطر
قوله : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا " أقل فلان الشيء : حمله ورفعه ، والسحاب يذكر ويؤنث ، والمعنى : حتى إذا حملت الرياح سحابا ثقالا بالماء الذي صارت تحمله سقناه أي السحاب لبلد ميت أي مجدب ليس فيه نبات ، يقال : سقته لبلد كذا ، وإلى بلد كذا ، وقيل : اللام هنا لام العلة : أي لأجل بلد ميت ، والبلد هو الموضع العامر من الأرض فأنزلنا به الماء أي بالبلد الذي سقناه لأجله أو بالسحاب : أي أنزلنا بالسحاب الماء الذي تحمله أو بالريح : أي فأنزلنا بالريح المرسلة بين يدي المطر الماء ، وقيل : إن الباء هنا بمعنى من : أي فأنزلنا منه الماء فأخرجنا به أي بالماء من كل الثمرات أي من جميع أنواعها .
قوله : كذلك نخرج الموتى أي مثل ذلك الإخراج ، وهو إخراج الثمرات نخرج الموتى من القبور يوم حشرهم لعلكم تذكرون أي تتذكرون ؛ فتعلمون بعظيم قدرة الله وبديع صنعته وأنه قادر على بعثكم كما قدر على إخراج الثمرات التي تشاهدونها .
قوله : والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه .
أي التربة الطيبة يخرج نباتها بإذن الله وتيسيره إخراجا حسنا تاما وافيا والذي خبث لا يخرج إلا نكدا أي والتربة الخبيثة لا يخرج نباتها إلا نكدا : أي لا خير فيه .
وقرأ " نكدا " بسكون الكاف . طلحة بن مصرف
وقرأ ابن القعقاع " نكدا " بفتح الكاف : أي ذا نكد .
وقرأ الباقون نكدا بفتح النون وكسر الكاف .
وقرئ " يخرج " أي يخرجه البلد ، قيل : ومعنى الآية التشبيه شبه تعالى السريع الفهم بالبلد الطيب ، والبليد بالبلد الخبيث ، ذكره النحاس ، وقيل : هذا مثل للقلوب ، فشبه القلب القابل للوعظ بالبلد الطيب والنائي عنه بالبلد الخبيث ، قاله الحسن ، وقيل : هو مثل لقلب المؤمن والمنافق قاله قتادة ، وقيل : هو مثل للطيب والخبيث من بني آدم ، قاله مجاهد .
كذلك نصرف الآيات أي مثل ذلك التصريف لقوم يشكرون الله ويعترفون بنعمته .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، ادعوا ربكم تضرعا وخفية قال : السر إنه لا يحب المعتدين في الدعاء ولا في غيره .
وأخرج أبو الشيخ ، عن قتادة ، قال : التضرع علانية والخفية سر .
وأخرج عن ابن أبي حاتم ، في قوله : سعيد بن جبير ، ادعوا ربكم تضرعا وخفية يعني مستكينا ، وخفية : يعني في خفض وسكون في حاجاتكم من أمر الدنيا والآخرة إنه لا يحب المعتدين يقول : : اللهم اخزه والعنه ونحو ذلك فإن ذلك عدوان . لا تدعوا على المؤمن والمؤمنة بالشر
وأخرج ابن [ ص: 481 ] جرير عن وابن أبي حاتم ، أبي مجلز في قوله : إنه لا يحب المعتدين قال : لا تسألوا منازل الأنبياء .
وأخرج ابن المبارك وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن الحسن قال : لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم ، وذلك أن الله يقول : ادعوا ربكم تضرعا وخفية وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا فرضي قوله فقال : إذ نادى ربه نداء خفيا ( مريم : 3 ) .
وأخرج عن ابن أبي حاتم ، ابن صالح في قوله : ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها قال : بعدما أصلحها الأنبياء وأصحابهم .
وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي سنان في الآية قال : أحللت حلالي وحرمت حرامي وحددت حدودي فلا تفسدوها .
وأخرج أبو الشيخ ، عن في قوله : ابن عباس ، وادعوه خوفا وطمعا قال : خوفا منه وطمعا لما عنده إن رحمة الله قريب من المحسنين يعني المؤمنين ، ومن لم يؤمن بالله فهو من المفسدين .
وأخرج ابن جريج وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن في قوله : السدي ، وهو الذي يرسل الرياح قال : إن الله يرسل الريح فيأتي بالسحاب من بين الخافقين طرف السماء والأرض من حيث يلتقيان فيخرجه من ثم ، ثم ينشره فيبسطه في السماء كيف يشاء ، ثم يفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ، ثم يمطر السحاب بعد ذلك .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن في قوله : ابن عباس ، بشرا بين يدي رحمته قال : يستبشر بها الناس .
وأخرج ابن جرير ، عن وابن أبي حاتم ، في قوله : السدي ، بين يدي رحمته قال : هو المطر ، وفي قوله : كذلك نخرج الموتى قال : كذلك تخرجون ، وكذلك النشور كما يخرج الزرع بالماء .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : كذلك نخرج الموتى قال : إذا أراد الله أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى يشقق عنهم الأرض ، ثم يرسل الأرواح فيهوي كل روح إلى جسده ، فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم ، في قوله : ابن عباس ، والبلد الطيب الآية قال : هو مثل ضربه الله للمؤمن ، يقول : هو طيب وعمله طيب ، كما أن البلد الطيب ثمرها طيب والذي خبث ضرب مثلا للكافر كالبلد السبخة المالحة التي لا تخرج منها البركة ، فالكافر هو الخبيث وعمله خبيث ، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين .