قوله : إذا لقيتم فئة اللقاء الحرب ، والفئة الجماعة ، أي إذا حاربتم جماعة من المشركين فاثبتوا لهم ولا تجبنوا عنهم ، وهذا لا ينافي الرخصة المتقدمة في قوله : إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ( الأنفال : 16 ) فإن الأمر بالثبات هو في حال السعة ، والرخصة هي في حال الضرورة .
وقد لا يحصل الثبات إلا بالتحرف والتحيز واذكروا الله أي اذكروا الله عند جزع قلوبكم فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد ، وقيل : المعنى : اثبتوا بقلوبكم واذكروا بألسنتكم فإن القلب قد يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان ، فأمرهم بالذكر حتى يجتمع ثبات القلب واللسان ، قيل : وينبغي أن يكون الذكر في هذه الحالة بما قاله أصحاب طالوت ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ( البقرة : 250 ) .
وفي الآية دليل على مشروعية الذكر في جميع الأحوال ، حتى في هذه الحالة التي ترجف فيها القلوب وتزيغ عندها البصائر .
ثم أمرهم بطاعة الله فيما يأمرهم به وطاعة رسوله فيما يرشدهم إليه ، ونهاهم عن التنازع وهو الاختلاف في الرأي ، فإن ذلك يتسبب عنه الفشل ، وهو الجبن في الحرب .
والفاء جواب النهي ، والفعل منصوب بإضمار " أن " ، ويجوز أن يكون الفعل معطوفا على تنازعوا مجزوما بجازمه .
قوله : وتذهب ريحكم قرئ بنصب الفعل ، وجزمه عطفا على تفشلوا على الوجهين ، والريح : القوة والنصر ، كما يقال : الريح لفلان إذا كان غالبا في الأمر ، وقيل : الريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها بالريح في هبوبها ، ومنه قول الشاعر :
إذا هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقة سكون
وقيل : المراد بالريح ريح الصبا ؛ لأن بها كان ينصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أمرهم وأخبرهم بأنه مع الصابرين في كل أمر ينبغي الصبر فيه ، ويا حبذا هذه المعية التي لا يغلب من رزقها غالب ، ولا يؤتى صاحبها من جهة من الجهات وإن كانت كثيرة . بالصبر على شدائد الحربثم نهاهم عن أن تكون حالتهم كحالة هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس وهم قريش ، فإنهم خرجوا يوم بدر ليحفظوا العير التي مع أبي سفيان ومعهم القيان والمعازف ، فلما بلغوا الجحفة بلغهم أن العير قد نجت وسلمت ، فلم يرجعوا بل قالوا : لا بد لهم من الوصول إلى بدر ؛ ليشربوا الخمر ، وتغني لهم القيان ، وتسمع العرب بمخرجهم ، فكان ذلك منهم بطرا وأشرا وطلبا للثناء من الناس ، وللتمدح إليهم والفخر عندهم ، وهو الرياء ، قيل : والبطر في اللغة : التقوي بنعم الله على معاصيه ، وهو مصدر في موضع الحال : أي خرجوا بطرين مرائين وقيل : هو مفعول له وكذا " رياء " : أي خرجوا للبطر والرياء .
وقوله : ويصدون معطوف على " بطرا " ، والمعنى كما تقدم : أي خرجوا بطرين مرائين صادين عن سبيل الله أو للصد عن سبيل الله ، والصد : إضلال الناس والحيلولة بينهم وبين طرق الهداية ، ويجوز أن يكون ويصدون معطوفا على يخرجون ، والمعنى : يجمعون بين الخروج على تلك الصفة والصد والله بما يعملون محيط لا تخفى عليه [ ص: 544 ] من أعمالهم خافية فهو مجازيهم عليها .
قوله : وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم الظرف متعلق بمحذوف : أي واذكر يا محمد وقت تزيين الشيطان لهم أعمالهم ، والتزيين : التحسين ، وقد روي أن الشيطان تمثل لهم وقال لهم تلك المقالة وهي : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم أي مجير لكم من كل عدو أو من بني كنانة ، ومعنى الجار هنا : الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن الجار ، وكان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، وهو من بني بكر بن كنانة ، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم ، وقيل : المعنى : إنه ألقى في روعهم هذه المقالة ، وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون فلما تراءت الفئتان أي فئة المسلمين والمشركين نكص على عقبيه أي رجع القهقرى ، ومنه قول الشاعر :
ليس النكوص على الأعقاب مكرمة إن المكارم إقدام على الأمل
وما نفع المستأخرين نكوصهم ولا ضر أهل السابقات التقدم
إذ يقول المنافقون الظرف معمول لفعل محذوف هو اذكر ، ويجوز أن يتعلق بـ " نكص " أو بـ " زين " أو بـ " شديد العقاب " ، قيل : المنافقون هم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر قوله : والذين في قلوبهم مرض هم الشاكون من غير نفاق بل لكونهم حديثي عهد بالإسلام فوافقوا المنافقين في قولهم بهذه المقالة ، أعني غر هؤلاء أي المسلمين دينهم حتى تكلفوا ما لا طاقة لهم به من قتال قريش ، وقيل : الذين في قلوبهم مرض هم المشركون ، ولا يبعد أن يراد بهم اليهود الساكنون في المدينة وما حولها ، وأنهم هم والمنافقون من أهل المدينة قالوا هذه المقالة عند خروج المسلمين إلى بدر لما رأوهم في قلة من العدد وضعف من العدد ، فأجاب الله عليهم بقوله : ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز لا يغلبه غالب ، ولا يذل من توكل عليه حكيم له الحكمة البالغة التي تقصر عندها العقول .
وقد أخرج ابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن قتادة في قوله : واذكروا الله قال : افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون : عند الضراب بالسيوف .
وأخرج الحاكم وصححه ، عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سهل بن سعد . ثنتان لا يردان : الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضا
وأخرج الحاكم وصححه ، عن أبي موسى . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره الصوت عند القتال
وأخرج ابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن قتادة في قوله : ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم يقول : لا تختلفوا فتجبنوا ويذهب نصركم .
وأخرج ، الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : وتذهب ريحكم قال : نصركم ، وقد ذهب ريح أصحاب محمد حين نازعوه يوم أحد .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وابن مردويه ، عن في قوله : ابن عباس ، ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم الآية ، يعني المشركين الذين قاتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر .
وأخرج ، عن ابن جرير قال : لما خرجت محمد بن كعب القرظي قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف ، فأنزل الله هذه الآية .
وأخرج ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، عن مجاهد في الآية قال : أبو جهل وأصحابه يوم بدر .
وأخرج ابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن قتادة في الآية قال : كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر خرجوا ولهم بغي وفخر ، وقد قيل : لهم يومئذ ارجعوا فقد انطلقت عيركم وقد ظفرتم فقالوا : لا والله حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا ، وذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال يومئذ : اللهم إن قريشا قد أقبلت بفخرها وخيلائها لتجادل رسولك وذكر لنا أنه قال يومئذ : جاءت من مكة أفلاذها .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن قال : جاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من ابن عباس ، بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال الشيطان : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم وأقبل جبريل على إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده وولى مدبرا وشيعته فقال الرجل : يا سراقة إنك جار لنا فقال : إني أرى ما لا ترون وذلك حين رأى الملائكة إني أخاف الله والله شديد العقاب ، قال ولما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين وقلل المشركين في أعين المسلمين فقال المشركون : وما هؤلاء غر هؤلاء دينهم ، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك ، فقال الله : ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم .
وأخرج ، الطبراني وأبو نعيم ، عن رفاعة بن رافع الأنصاري قال : لما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه فتشبث به الحارث بن هاشم وهو يظن أنه سراقة بن مالك ، فوكز في صدر الحارث فألقاه ثم خرج هاربا حتى ألقى نفسه في البحر ورفع يديه فقال : اللهم إني أسألك نظرتك إياي .
وأخرج ، الواقدي وابن مردويه ، عن نحوه . ابن عباس ،
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن قتادة في قوله : إني أرى ما لا ترون قال : ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة ، فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة وقال : إني أخاف الله كذب عدو الله ما به [ ص: 545 ] مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة له به ولا منعة له .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن معمر قال : ذكروا أنهم أقبلوا على سراقة بن مالك بعد ذلك ، فأنكر أن يكون قال شيئا من ذلك .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس ، إذ يقول المنافقون قال : وهم يومئذ في المسلمين .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم الحسن في قوله : والذين في قلوبهم مرض قال : هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن الكلبي ، في قوله : والذين في قلوبهم مرض قال : هم قوم كانوا أقروا بالإسلام وهم بمكة ثم خرجوا مع المشركين يوم بدر ، فلما رأوا المسلمين قالوا : غر هؤلاء دينهم .
وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ عن ، نحوه . الشعبي