واذكروا ما فيه لعلكم تتقون وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين
قوله : وإذ أخذنا هو في محل نصب بعامل مقدر هو اذكروا كما تقدم غير مرة .
وقد تقدم تفسير الميثاق ، والمراد أنه أخذ سبحانه عليهم الميثاق بأن يعملوا بما شرعه لهم في التوراة وبما هو أعم من ذلك أو أخص .
والطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وأنزل عليه التوراة فيه ، وقيل : هو اسم لكل جبل بالسريانية .
وقد ذكر كثير من المفسرين أن موسى لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح قال لهم : خذوها والتزموها ، فقالوا : لا ، إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك ، فصعقوا ثم أحيوا ، فقال لهم : خذوها والتزموها ، فقالوا : لا ، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله وكذلك كان عسكرهم ، فجعل عليهم مثل الظلة ، وأتوا ببحر من خلفهم ونار من قبل وجوههم ، وقيل لهم : خذوها وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها وإلا سقط عليكم الجبل ، فسجدوا توبة لله وأخذوا التوراة بالميثاق .
قال عن بعض العلماء : لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق . ابن جرير
قال ابن عطية : والذي لا يصح سواه أن الله سبحانه اخترع وقت سجودهم الإيمان ، لا أنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة انتهى .
وهذا تكلف ساقط حمله المحافظة على ما قد ارتسم لديه من قواعد مذهبية قد سكن قلبه إليها كغيره ، وكل عاقل يعلم أنه لا سبب من أسباب الإكراه أقوى من هذا أو أشد منه .
ونحن نقول : أكرههم الله على الإيمان فآمنوا مكرهين ، ورفع عنهم العذاب بهذا الإيمان .
وهو نظير ما ثبت في شرعنا من رفع السيف عن من تكلم بكلمة الإسلام والسيف مصلت قد هزه حامله على رأسه .
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذرا عن قتله بأنه قالها تقية ولم تكن عن قصد صحيح : أأنت فتشت عن قلبه وقال : وقوله : خذوا أي : وقلنا لكم لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس خذوا ما آتيناكم بقوة والقوة : الجد والاجتهاد والمراد بذكر ما فيه أن يكون محفوظا عندهم ليعملوا به .
قوله : ثم توليتم ، أصل التولي الإدبار عن الشيء والإعراض بالجسم ، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعا ومجازا ، والمراد هنا : إعراضهم عن الميثاق المأخوذ عليهم ، وقوله : من بعد ذلك أي من بعد البرهان لهم والترهيب بأشد ما يكون [ ص: 65 ] وأعظم ما تجوزه العقول وتقدره الأفهام ، وهو رفع الجبل فوق رءوسهم كأنه ظلة عليهم .
وقوله : فلولا فضل الله عليكم بأن تدارككم بلطفه ورحمته حتى أظهرتم التوبة لخسرتم .
والفضل : الزيادة .
قال ابن فارس في المجمل : الفضل الزيادة والخير ، والإفضال : الإحسان . انتهى .
والخسران : النقصان ، وقد تقدم تفسيره .
والسبت في أصل اللغة : القطع ، لأن الأشياء تمت فيه وانقطع العمل ، وقيل : هو مأخوذ من السبوت ، وهو الراحة والدعة .
وقال في الكشاف : السبت مصدر سبتت اليهود : إذا عظمت يوم السبت . انتهى .
وقد ذكر جماعة من المفسرين أن اليهود افترقت فرقتين : ففرقة اعتدت في السبت : أي جاوزت ما أمرها الله به من العمل فيه فصادوا السمك الذي نهاهم الله عن صيده فيه ، والفرقة الأخرى انقسمت إلى فرقتين : ففرقة جاهرت بالنهي واعتزلت وفرقة لم توافق المعتدين ولا صادوا معهم لكنهم جالسوهم ولم يجاهروهم بالنهي ولا اعتزلوا عنهم فمسخهم الله جميعا ولم تنج إلا الفرقة الأولى فقط .
وهذه من جملة المحن التي امتحن الله بها هؤلاء الذين بالغوا في العجرفة وعاندوا أنبياءهم ، وما زالوا في كل موطن يظهرون من حماقاتهم وسخف عقولهم وتعنتهم نوعا من أنواع التعسف ، وشعبا من شعب التكلف ، فإن الحيتان كانت في يوم السبت كما وصف الله سبحانه بقوله : إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم فاحتالوا لصيدها ، وحفروا الحفائر وشقوا الجداول ، فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصيدونها يوم الأحد ، فلم ينتفعوا بهذه الحيلة الباطلة .
والخاسئ : المبعد ، يقال : خسأته فخسأ وخسئ وانخسأ : أبعدته فبعد .
ومنه قوله تعالى : ينقلب إليك البصر خاسئا أي مبعدا .
وقوله : اخسئوا فيها أي تباعدوا تباعد سخط ، ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر .
والمراد هنا : كونوا بين المصير إلى أشكال القردة مع كونهم مطرودين صاغرين .
فقردة خبر الكون و ( خاسئين ) خبر آخر ، وقيل : إنه صفة لقردة والأول أظهر .
واختلف في مرجع الضمير في قوله : فجعلناها وفي قوله : لما بين يديها وما خلفها فقيل : العقوبة ، وقيل : الأمة ، وقيل : القرية ، وقيل : القردة ، وقيل : الحيتان ، والأول أظهر .
والنكال : الزجر والعقاب ، والنكل : القيد لأنه يمنع صاحبه ، ويقال للجام الدابة نكل لأنه يمنعها ، والموعظة مأخوذة من الاتعاظ والانزجار ، والوعظ : التخويف .
وقال الخليل : الوعظ التذكير بالخير .
وقد أخرج عن ابن جرير قال : ابن عباس الطور الجبل الذي أنزلت عليه التوراة ، وكان بنو إسرائيل أسفل منه .
وأخرج نحوه عبد بن حميد عن وابن جرير قتادة .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن قال : الطور ما أنبت من الجبال ، وما لم ينبت فليس بطور . ابن عباس
وأخرج عنه في قوله : ابن جرير خذوا ما آتيناكم بقوة قال : أي جد .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم أبي العالية في قوله : واذكروا ما فيه قال : اقرءوا ما في التوراة واعملوا به .
وأخرج ابن إسحاق عن وابن جرير في قوله : ابن عباس لعلكم تتقون قال : لعلكم تنزعون عما أنتم عليه .
وأخرج عنه ، قال : ( ولقد علمتم ) أي عرفتم و ( اعتدوا ) يقول : اجترءوا في السبت بصيد السمك ، فمسخهم الله قردة بمعصيتهم ، ولم يعش مسيخ قط فوق ثلاثة أيام ، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل . ابن جرير
وأخرج ابن المنذر عنه ، قال : القردة والخنازير من نسل الذين مسخوا ، وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال : انقطع ذلك النسل .
وأخرج ابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد قال : مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كقوله : كمثل الحمار يحمل أسفارا .
وأخرج عبد بن حميد عن وابن جرير قتادة في الآية ، قال : أحلت لهم الحيتان وحرمت عليهم يوم السبت ليعلم من يطيعه ممن يعصيه فكان فيهم ثلاثة أصناف ، وذكر نحو ما قدمناه عن المفسرين .
وأخرج عن ابن أبي حاتم قال : صار شباب القوم قردة ، والمشيخة صاروا خنازير . ابن عباس
وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس خاسئين قال : ذليلين .
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : خاسئين قال : صاغرين .
وأخرج عن ابن جرير مجاهد مثله .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم ابن عباس فجعلناها نكالا لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى وموعظة للمتقين الذين من بعدهم إلى يوم القيامة .
وأخرج عنه فجعلناها يعني الحيتان ابن جرير نكالا لما بين يديها وما خلفها من الذنوب التي عملوا قبل وبعد .
وأخرج عنه فجعلناها قال : جعلنا تلك العقوبة وهي المسخة نكالا عقوبة ابن جرير لما بين يديها يقول : ليحذر من بعدهم عقوبتي وما خلفها يقول : للذين كانوا معهم : وموعظة قال : تذكرة وعبرة للمتقين .