لما ذكر سبحانه كفر الكافرين وعجزهم وعجز أصنامهم ، ذكر قدرته الباهرة وخلقه البديع ليستدل بذلك على وحدانيته ، فقال : ولقد جعلنا في السماء بروجا الجعل إن كان بمعنى الخلق ، ف ( في السماء ) متعلق به ، وإن كان بمعنى التصيير ف ( في السماء ) خبره ، والبروج في اللغة : القصور والمنازل ، والمراد بها هنا ، وهي الاثنا عشر المشهورة كما تدل على ذلك التجربة ، والعرب تعد المعرفة بمواقع النجوم ومنازلها من أجل العلوم ، ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب ، وقالوا الفلك اثنا عشر برجا ، وأسماء هذه البروج : الحمل ، الثور ، الجوزاء ، السرطان ، الأسد ، السنبلة ، الميزان ، العقرب ، القوس ، الجدي ، الدلو ، الحوت . منازل الشمس والقمر والنجوم السيارة
كل ثلاثة منها على طبيعة عنصر من العناصر الأربعة المشتغلين بهذا العلم ، ويسمون الحمل والأسد والقوس مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية .
وأصل البروج الظهور ، ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها .
وقال الحسن وقتادة : البروج النجوم ، وسميت بذلك لظهورها وارتفاعها ، وقيل : : السبعة السيارة منها ، قاله أبو صالح ، وقيل : : هي قصور وبيوت في السماء فيها حرس ، والضمير في وزيناها راجع إلى السماء ، أي : وزينا السماء بالشمس والقمر والنجوم والبروج للناظرين إليها : أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين إذا كان من النظر ، وهو الاستدلال .
وحفظناها أي السماء من كل شيطان رجيم قال أبو عبيدة : الرجيم المرجوم بالنجوم ، كما في قوله : رجوما للشياطين [ الملك : 5 ] والرجم في اللغة هو الرمي بالحجارة ، ثم قيل للعن والطرد والإبعاد رجم ، لأن الرمي بالحجارة يوجب هذه المعاني .
إلا من استرق السمع استثناء متصل ، أي : إلا ممن استرق السمع ، ويجوز أن يكون منقطعا ، أي : ولكن من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين ، والمعنى : حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئا من الوحي وغيره إلا من استرق السمع فإنها تتبعه الشهب فتقتله أو تخبله : ومعنى فأتبعه تبعه ولحقه أو أدركه .
والشهاب : الكوكب أو النار المشتعلة الساطعة كما في قوله : بشهاب قبس [ النمل : 7 ] قال : ذو الرمة
كأنه كوكب في إثر عفريت
وسمي الكوكب شهابا لبريقه شبه النار ، والمبين : الظاهر للمبصرين يرونه لا يلتبس عليهم .قال القرطبي : واختلف في الشهاب هل يقتل أم لا ؟ فقال : الشهاب يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل ، وقال ابن عباس الحسن وطائفة : يقتل .
فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان : أحدهما : أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم فلا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء ، ولذلك انقطعت الكهانة .
والثاني أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن ، قال : ذكره الماوردي ، ثم قال : والقول الأول أصح .
قال : واختلف هل كان رمي بالشهب قبل المبعث ، فقال الأكثرون : نعم ، وقيل : لا وإنما ذلك بعد المبعث .
قال : والرمي بالشهب من آيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما حدث بعد مولده لأن الشعراء في القديم لم يذكروه في أشعارهم . الزجاج
قال كثير من أهل العلم : نحن نرى انقضاض الكواكب ، فيجوز أن يكون ذلك كما نرى ، ثم يصير نارا إذا أدرك الشيطان ، ويجوز أن يقال يرمون بشعلة من نار الهواء فيخيل إلينا أنه نجم يسري .
والأرض مددناها أي بسطناها وفرشناها كما في قوله : والأرض بعد ذلك دحاها [ النازعات : 30 ] وفي قوله : والأرض فرشناها فنعم الماهدون [ الذاريات : 48 ] وفيه رد على من زعم أنها كالكرة وألقينا فيها رواسي أي جبالا ثابتة لئلا تحرك بأهلها ، وقد تقدم بيان ذلك في سورة الرعد وأنبتنا فيها من كل شيء موزون أي أنبتنا في الأرض من كل شيء مقدر معلوم ، فعبر عن ذلك بالوزن لأنه مقدار تعرف به الأشياء ، ومنه قول الشاعر :
قد كنت قبل لقائكم ذا مرة عندي لكل مخاصم ميزانه
أي حسن .
وجعلنا لكم فيها معايش تعيشون بها من المطاعم والمشارب ، جمع معيشة ، وقيل : هي الملابس ، وقيل : هي التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة .
قال الماوردي : وهو الظاهر .
قلت : بل القول الأول أظهر ، ومنه قول جرير :
تكلفني معيشة آل زيد ومن لي بالمرقق والضباب
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه " إن " هي النافية و ( من ) مزيدة للتأكيد ، وهذا التركيب عام لوقوع النكرة في حيز النفي مع زيادة " من " ، ومع لفظ شيء المتناول لكل الموجودات الصادق على كل فرد منها ، فأفاد ذلك أن جميع الأشياء عند الله خزائنها لا يخرج منها شيء : والخزائن جمع خزانة ، وهي المكان الذي يحفظ فيه نفائس الأمور ، وذكر الخزائن تمثيل لاقتداره على كل مقدور ، والمعنى : أن كل الممكنات مقدورة ومملوكة يخرجها من العدم إلى الوجوب بمقدار كيف شاء .
وقال جمهور المفسرين : إن المراد بما في هذه الآية هو المطر ، لأنه سبب الأرزاق والمعايش ، وقيل : الخزائن المفاتيح ، أي : ما من شيء إلا عندنا في السماء مفاتيحه ، والأولى ما ذكرناه من العموم لكل موجود ، بل قد يصدق الشيء على المعدوم على الخلاف المعروف في ذلك وما ننزله إلا بقدر معلوم أي ما ننزله من السماء إلى الأرض أو نوجده للعباد إلا بقدر معلوم ، والقدر المقدار ، والمعنى : أن الله سبحانه لا يوجد للعباد شيئا من تلك الأشياء المذكورة إلا متلبسا ذلك الإيجاد بمقدار معين حسب ما تقتضيه مشيئته على مقدار حاجة العباد إليه كما قال سبحانه : ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء [ الشورى : 27 ] وقد فسر الإنزال بالإعطاء وفسر بالإنشاء ، وفسر بالإيجاد ، والمعنى متقارب ، وجملة وما ننزله معطوفة على مقدر ، أي : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ننزله وما ننزله ، أو في محل نصب على الحال .
وأرسلنا الرياح لواقح معطوف على وجعلنا لكم فيها معايش وما بينهما اعتراض .
قرأ حمزة " الريح " بالتوحيد .
وقرأ من عداه الرياح بالجمع ، وعلى قراءة حمزة فتكون اللام في " الريح " للجنس .
قال الأزهري وجعل الرياح لواقح لأنها تحمل السحاب ، أي : تقله وتصرفه ، ثم تمر به فتنزله .
قال الله سبحانه : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا [ الأعراف : 57 ] ، أي : حملت .
وناقة لاقح : إذا حملت الجنين في بطنها ، وبه قال الفراء وابن قتيبة ، وقيل : لواقح بمعنى ملقحة .
قال : تقول العرب : أبقل النبت فهو باقل ، أي : مبقل ، والمعنى : أنها تلقح الشجر ، أي : بقوتها ، وقيل : معنى " لواقح " ذوات لقح . ابن الأنباري
قال : معناه وذات لقحة ، لأنها تعصر السحاب وتدره كما تدر اللقحة ، يقال رامح ، أي : ذو رمح ، ولابن ، أي : ذو لبن ، وتامر ، أي : ذو تمر . الزجاج
قال أبو عبيدة : لواقح بمعنى ملاقح ، ذهب إلى أنها جمع ملقحة .
وفي هذه الآية تشبيه الرياح التي تحمل الماء بالحامل ، ولقاح الشجر بلقاح الحمل وأنزلنا من السماء ماء أي من السحاب ، وكل ما علاك فأظلك فهو سماء ، وقيل : من جهة السماء ، والمراد بالماء هنا ماء المطر فأسقيناكموه أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم .
قال أبو علي : يقال سقيته الماء إذا أعطيته قدر ما يروي ، وأسقيته نهرا ، أي : جعلته شربا له ، وعلى هذا ف ( أسقيناكموه ) أبلغ من سقيناكموه ، وقيل : سقى وأسقى بمعنى واحد وما أنتم له بخازنين أي ليست خزائنه عندكم ، بل خزائنه عندنا ، ونحن الخازنون له ، فنفى عنهم سبحانه ما أثبته لنفسه في قوله : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وقيل : المعنى : إن ما أنتم له بخازنين بعد أن أنزلناه عليكم ، أي : لا تقدرون على حفظه في الآبار والغدران والعيون ، بل نحن الحافظون له فيها ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة إليه .
وإنا لنحن نحيي ونميت أي نوجد الحياة في المخلوقات ونسلبها عنها متى شئنا ، والغرض من ذلك الاستدلال بهذه الأمور على كمال قدرته عز وجل ، وأنه القادر على البعث والنشور والجزاء لعباده على حسب ما يستحقونه وتقتضيه مشيئته ، ولهذا قال : ونحن الوارثون أي للأرض ومن عليها ، لأنه سبحانه الباقي بعد فناء خلقه ، الحي الذي لا يموت ، الدائم الذي لا ينقطع وجوده ، ولله ميراث السماوات والأرض [ آل عمران : 180 ] .
ولقد علمنا المستقدمين منكم هذه اللام هي الموطئة للقسم ، وهكذا اللام في ولقد علمنا المستأخرين ، والمراد من تقدم ولادة وموتا ، ومن تأخر فيهما ، وقيل : من تقدم طاعة ومن تأخر فيها ، وقيل : من تقدم في صف القتال ومن تأخر ، وقيل : المراد بالمستقدمين الأموات ، وبالمستأخرين الأحياء ، وقيل : المستقدمين هم الأمم المتقدمون على أمة محمد ، والمستأخرون هم أمة محمد ، وقيل : المستقدمون من قتل في الجهاد ، والمستأخرون من لم يقتل .
وإن ربك هو يحشرهم أي هو المتولي لذلك القادر عليه دون غيره كما يفيده ضمير الفصل من الحصر .
وفيه أنه سبحانه يجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، لأنه الأمر المقصود من الحشر إنه حكيم يجري الأمور على ما تقتضيه حكمته البالغة عليم أحاط علمه بجميع الأشياء لا يخفى عليه شيء منها ، ومن كان كذلك فله القدرة البالغة على كل شيء مما وسعه علمه ، [ ص: 760 ] وجرى فيه حكمه سبحانه لا إله إلا هو .
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : ولقد جعلنا في السماء بروجا قال : كواكب .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم قتادة مثله .
وأخرج عن ابن أبي حاتم أبي صالح قال : الكواكب العظام .
وأخرج أيضا عن عطية قال : قصورا في السماء فيها الحرس .
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وابن أبي حاتم قتادة الرجيم : الملعون .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس إلا من استرق السمع أراد أن يخطف السمع كقوله : إلا من خطف الخطفة [ الصافات : 10 ] .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم الضحاك قال : كان يقول إن الشهب لا تقتل ، ولكن تحرق وتخبل وتجرح من غير أن تقتل . ابن عباس
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله : وأنبتنا فيها من كل شيء موزون قال : معلوم .
وأخرج عنه أيضا ابن أبي حاتم من كل شيء موزون قال : بقدر .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم ابن زيد قال : الأشياء التي توزن .
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وابن أبي حاتم عكرمة قال : ما أنبتت الجبال ، مثل الكحل وشبهه .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : ومن لستم له برازقين قال : الدواب والأنعام .
وأخرج هؤلاء عن منصور قال : الوحش .
وأخرج البزار وابن مردويه وأبو الشيخ في العظمة عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبي هريرة خزائن الله الكلام ، فإذا أراد شيئا قال له كن فكان .
وأخرج عن ابن جرير في قوله : ابن جريج إلا عندنا خزائنه قال : المطر خاصة .
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد نحوه .
وأخرج ابن المنذر عن وابن أبي حاتم قال : ما نقص المطر منذ أنزله الله ، ولكن تمطر أرض أكثر مما تمطر أخرى ثم قرأ ابن عباس وما ننزله إلا بقدر معلوم .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن قال : ما من عام بأمطر من عام ، ولكن الله يصرفه حيث يشاء ، ثم قرأ : ابن مسعود وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم .
وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعا .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن والطبراني في قوله : ابن مسعود وأرسلنا الرياح لواقح قال : يرسل الله الريح فتحمل الماء فتلقح به السحاب فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن نحوه . ابن عباس
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قال : يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قما . عبيد بن عمير
ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب فتجعله كسفا ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فيجعله ركاما ، ثم يبعث اللواقح فتلقحه فتمطر .
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والديلمي بسند ضعيف عن قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أبي هريرة ريح الجنوب من الجنة ، وهي الريح اللواقح التي ذكر الله في كتابه .
وأخرج الطيالسي وسعيد بن منصور وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه عن قال : ابن عباس ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين وهذا الحديث هو من رواية كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسناء من أحسن النساء ، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر ، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه ، فأنزل الله : أبي الجوزاء عن . ابن عباس
وقد رواه عبد الرزاق وابن المنذر من قول أبي الجوزاء قال الترمذي : وهذا أشبه أن يكون أصح .
وقال ابن كثير : في هذا الحديث نكارة شديدة .
وأخرج الحاكم وابن مردويه عن في الآية قال : ابن عباس المستقدمين الصفوف المتقدمة ، والمستأخرين : الصفوف المؤخرة .
وقد وردت أحاديث كثيرة في أن خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها ، وشرها أولها .
وأخرج عن ابن أبي حاتم عطاء أن الآية في صفوف القتال . ومقاتل بن حبان
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم الحسن قال : المستقدمين في طاعة الله ، والمستأخرين في معصية الله .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن قال : يعني بـ ( ابن عباس المستقدمين ) من مات ، وب ( المستأخرين ) من هو حي لم يمت .
وأخرج هؤلاء عنه أيضا قال : المستقدمين آدم ومن مضى من ذريته ، والمستأخرين في أصلاب الرجال .
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة نحوه .