قوله : والله جعل لكم معطوف على ما قبله وهذا المذكور من جملة أحوال الإنسان ، ومن تعديد نعم الله عليه ، والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع ، وهو بمعنى مسكون ، أي : تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة ، وهذه نعمة ، فإن الله سبحانه لو شاء لخلق العبد مضطربا دائما كالأفلاك ، ولو شاء لخلقه ساكنا أبدا كالأرض وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا لما ذكر سبحانه بيوت المدن ، وهي التي للإقامة الطويلة عقبها بذكر بيوت البادية والرحلة ، أي : جعل لكم من جلود الأنعام - وهي الأنطاع والأدم بيوتا كالخيام والقباب تستخفونها أي يخف عليكم حملها في الأسفار وغيرها ، ولهذا قال يوم ظعنكم والظعن بفتح العين وسكونها ، وقرئ بهما : سير أهل البادية للانتجاع والتحول من موضع إلى موضع ، ومنه قول عنترة :
ظعن الذين فراقهم أتوقع وجرى ببينهم الغراب الأبقع
والظعن الهودج أيضا ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا معطوف على جعل أي وجعل لكم من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها ، والأنعام تعم الإبل والبقر والغنم كما تقدم ، والأصواف للغنم ، والأوبار للإبل ، [ ص: 796 ] والأشعار للمعز ، وهي من جملة الغنم ، فيكون ذكر هذه الثلاثة على وجه التنويع كل واحد منها لواحد من الثلاثة ، أعني الإبل ، ونوعي الغنم . والأثاث متاع البيت ، وأصله الكثرة والاجتماع ، ومنه شعر أثيث ، أي : كثير مجتمع ، قال الشاعر :وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل
ثم لما كان الإنسان قد لا يكون له خيام ، أو أبنية يستظل بها لفقر ، أو لعارض آخر فيحتاج إلى أن يستظل بشجر أو جدار أو غمام أو نحو ذلك ، نبه سبحانه على ذلك فقال : جعل لكم مما خلق ظلالا أي أشياء تستظلون بها كالأشياء المذكورة .
والحاصل أن الظلال تعم الأشياء التي تظل ، ثم لما كان المسافر قد يحتاج إلى ركن يأوي إليه في نزوله ، وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحر والبرد ، نبه سبحانه على ذلك فقال : وجعل لكم من الجبال أكنانا وهي جمع كن : وهو ما يستكن به من المطر ، وهي هنا الغيران في الجبال ، جعلها الله سبحانه عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها ويعتزلون عن الخلق فيها وجعل لكم سرابيل جمع سربال ، وهي القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها .
قال : كل ما لبسته فهو سربال ، ومعنى الزجاج تقيكم الحر تدفع عنكم ضرر الحر ، وخص الحر ولم يذكر البرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر ، لأن ما وقى من الحر وقى من البرد .
ووجه تخصيص الحر بالذكر أن الوقاية منه كانت أهم عندهم من الوقاية من البرد لغلبة الحر في بلادهم وسرابيل تقيكم بأسكم وهي الدروع والجواشن يتقون بها الطعن والضرب والرمي .
والمعنى : أنها تقيكم البأس الذي يصل من بعضكم إلى بعض في الحرب كذلك يتم نعمته عليكم أي مثل ذلك الإتمام البالغ يتم نعمته عليكم ، فإنه سبحانه قد من على عباده بصنوف النعم المذكورة هاهنا وبغيرها ، وهو بفضله وإحسانه سيتم لهم نعمة الدين والدنيا لعلكم تسلمون إرادة أن تسلموا ، فإن من أمعن النظر في هذه النعم لم يسعه إلا الإسلام والانقياد للحق .
وقرأ ابن محيصن ، وحميد " تتم نعمته " بتاءين فوقيتين على أن فاعله ( نعمته ) وقرأ الباقون بالتحتية على أن الفاعل هو الله سبحانه .
وقرأ ، ابن عباس وعكرمة " تسلمون " بفتح التاء واللام من السلامة على الجراح ، وقرأ الباقون بضم التاء وكسر اللام من الإسلام .
قال أبو عبيد : والاختيار قراءة العامة ، لأن ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح ، وقيل : الخطاب لأهل مكة ، أي : لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية ، والأولى الحمل على العموم ، وإفراد النعمة هنا لأن المراد بها المصدر .
فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين أي إن تولوا عنك ولم يقبلوا ما جئت به فقد تمهد عذرك ، فإنما عليك البلاغ لما أرسلت به إليهم ، المبين : أي الواضح ، وليس عليك غير ذلك ، وصرف الخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسلية له .
وجملة يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها استئناف لبيان توليهم ، أي : هم يعرفون نعمة الله التي عددها ، ويعترفون بأنها من عند الله سبحانه ثم ينكرونها بما يقع من أفعالهم القبيحة من عبادة غير الله وبأقوالهم الباطلة ، حيث يقولون : هي من الله ولكنها بشفاعة الأصنام ، وحيث يقولون إنهم ورثوا تلك النعم من آبائهم ، وأيضا كونهم لا يستعملون هذه النعم في مرضاة الرب سبحانه ، وفي وجوه الخير التي أمرهم الله بصرفها فيها ، وقيل نعمة الله نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعرفونه ثم ينكرون نبوته وأكثرهم الكافرون أي الجاحدون لنعم الله أو الكافرون بالله ، وعبر هنا بالأكثر عن الكل ، أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم ، أو أراد كفر الجحود ولم يكن كفر كلهم كذلك ، بل كان كفر بعضهم كفر جهل ، وكفر بعضهم بسبب تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع اعترافهم بالله وعدم الجحد لربوبيته ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [ النمل : 14 ] .
وقد أخرج ، ابن أبي شيبة ، وابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم مجاهد سكنا قال : تسكنون فيها .
وأخرج عن ابن أبي حاتم نحوه قال : السدي وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا وهي خيام العرب تستخفونها يقول : في الحمل ومتاعا يقول بلاغا إلى حين قال : إلى الموت .
وأخرج عن ابن أبي حاتم ابن عباس تستخفونها يوم ظعنكم قال : بعض بيوت السيارة بنيانه في ساعة ، وفي قوله : وأوبارها قال : الإبل وأشعارها قال الغنم .
وأخرج عنه في قوله أثاثا قال : الأثاث المتاع . ابن أبي حاتم
وأخرج عنه أيضا قال : الأثاث المال ابن جرير ومتاعا إلى حين يقول : تنتفعون به إلى حين .
وأخرج ، عبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم قتادة في قوله : والله جعل لكم مما خلق ظلالا قال : من الشجر ومن غيرها وجعل لكم من الجبال أكنانا قال : غارات يسكن فيها وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر قال : من القطن والكتان والصوف وسرابيل تقيكم بأسكم من الحديد كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ولذلك هذه السورة تسمى سورة النعم .
وأخرج أبو عبيد ، ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن في ابن عباس سرابيل تقيكم الحر قال : يعني الثياب ، قوله : وسرابيل تقيكم بأسكم قال : يعني الدروع والسلاح كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون يعني من الجراحات وكان [ ص: 797 ] يقرأها ( تسلمون ) كما قدمنا ، وإسناده ضعيف . ابن عباس