قوله : ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر الإزجاء : السوق والإجراء والتسيير ، ومنه قوله سبحانه : ألم تر أن الله يزجي سحابا [ النور : 43 ] ، وقول الشاعر :
يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصور
وقول الآخر :عوذا تزجي خلفها أطفالها
والمعنى : أن الله سبحانه يسير الفلك في البحر بالريح ، والفلك هاهنا جمع . وقد تقدم ، والبحر هو الماء الكثير عذبا كان أو مالحا ، وقد غلب هذا الاسم على المشهور لتبتغوا من فضله أي : من رزقه الذي تفضل به على عباده ، أو من الربح بالتجارة ، و ( من ) زائدة أو للتبعيض ، وفي هذه الآية تذكير لهم بنعم الله سبحانه عليهم حتى لا يعبدوا غيره ولا يشركوا به أحدا ، وجملة إنه كان بكم رحيما تعليل لما تقدم أي : كان بكم رحيما فهداكم إلى مصالح دنياكم .وإذا مسكم الضر يعني : خوف الغرق في البحر ضل من تدعون من الآلهة وذهب عن خواطركم ، ولم يوجد لإغاثتكم ما كنتم تدعون من دونه من صنم أو جن أو ملك أو بشر ( إلا إياه ) وحده فإنكم تعقدون رجاءكم برحمته وإغاثته ، والاستثناء منقطع ، ومعنى الآية : أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم وسائر معبوداتهم أنها نافعة لهم في غير هذه الحالة ، فأما في هذه الحالة فإن كل واحد منهم يعلم بالفطرة علما لا يقدر على مدافعته أن الأصنام ونحوها لا فعل لها فلما نجاكم إلى البر أعرضتم عن الإخلاص لله وتوحيده ، ورجعتم إلى دعاء أصنامكم والاستغاثة بها وكان الإنسان كفورا أي : كثير الكفران لنعمة الله ، وهو تعليل لما تقدمه ، والمعنى : أنهم عند الشدائد يتمسكون برحمة الله ، وفي الرخاء يعرضون عنه .
ثم أنكر سبحانه عليهم سوء معاملتهم قائلا : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض ؟ فبين لهم أنه قادر على إهلاكهم في البر وإن سلموا من البحر .
والخسف أن تنهار الأرض بالشيء ، يقال : بئر خسيف : إذا انهدم أصلها ، وعين خاسف أي : غائرة حدقتها في الرأس ، وخسفت عين الماء : إذا غار ماؤها ، وخسفت الشمس : إذا غابت عن الأرض . و ( جانب البر ) ناحية الأرض ، وسماه جانبا لأنه يصير بعد الخسف جانبا ، وأيضا فإن البحر جانب من الأرض والبر جانب .
وقيل : إنهم كانوا على ساحل البحر ، وساحله جانب البر ، فكانوا فيه آمنين من مخاوف البحر ، فحذرهم ما أمنوه من البر كما حذرهم ما خافوه من البحر أو يرسل عليكم حاصبا قال أبو عبيدة والقتيبي : الحصب الرمي أي : ريحا شديدة حاصبة ، وهي التي ترمي بالحصى الصغار .
وقال : الحاصب التراب الذي فيه حصباء ، فالحاصب ذو الحصباء كاللابن والتامر ، وقيل : الحاصب حجارة من السماء تحصبهم كما فعل بقوم الزجاج لوط ، ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد حاصب ، ومنه قول : الفرزدق
مستقبلين جبال الشام تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور
أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى أي : في البحر مرة أخرى بأن يقوي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى ركوبه ، وجاء بـ ( في ) ولم يقل : إلى البحر ، للدلالة على استقرارهم فيه فيرسل عليكم قاصفا من الريح القاصف : الريح الشديدة التي تكسر بشدة ، من قصف الشيء يقصفه أي : كسره بشدة ، والقصف : الكسر ، أو هو الريح التي لها قصيف أي : صوت شديد من قولهم : رعد قاصف أي : شديد الصوت ( فيغرقكم ) قرأ أبو جعفر وشيبة ورويس ومجاهد ( فتغرقكم ) بالتاء الفوقية على أن فاعله الريح ، وقرأ الحسن وقتادة وابن وردان ( فيغرقكم ) بالتحتية والتشديد في الراء . وقرأ أبو جعفر أيضا ( الرياح ) ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون في جميع هذه الأفعال .
وقرأ الباقون بالياء التحتية في جميعها أيضا ، والباء في ( بما كفرتم ) للسببية أي : بسبب كفركم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا أي : ثائرا يطالبنا بما فعلنا . قال : لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم . قال الزجاج النحاس : وهو من الثأر ، وكذا يقال لكل من طلب بثأر أو غيره تبيع وتابع .
ولقد كرمنا بني آدم هذا إجمال لذكر النعمة التي أنعم الله بها على بني آدم أي : كرمناهم جميعا ، وهذه الكرامة يدخل تحتها خلقهم على هذه الهيئة الحسنة وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس على وجه لا يوجد لسائر أنواع الحيوان مثله .
وحكى عن جماعة أن هذا التكريم هو أنهم يأكلون بأيديهم ، وسائر الحيوانات تأكل بالفم ، وكذا حكاه ابن جرير النحاس . وقيل : ميزهم بالنطق والعقل والتمييز ، وقيل : أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب .
وقال : أكرمهم بتسليطهم على سائر الخلق وتسخير سائر الخلق لهم ، وقيل : بالكلام والخط والفهم ، ولا مانع من حمل التكريم المذكور في الآية على جميع هذه الأشياء . ابن جرير
وأعظم خصال التكريم العقل ، فإن به تسلطوا على سائر [ ص: 834 ] الحيوانات ، وميزوا بين الحسن والقبيح ، وتوسعوا في المطاعم والمشارب ، وكسبوا الأموال التي تسببوا بها إلى تحصيل أمور لا يقدر عليها الحيوان ، وبه قدروا على تحصيل الأبنية التي تمنعهم مما يخافون ، وعلى تحصيل الأكسية التي تقيهم الحر والبرد ، وقيل : تكريمهم هو أن جعل محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - منهم وحملناهم في البر والبحر هذا تخصيص لبعض أنواع التكريم ، حملهم سبحانه في البر على الدواب ، وفي البحر على السفن ، وقيل : حملناهم فيهما حيث لم نخسف بهم ولم نغرقهم ورزقناهم من الطيبات أي : لذيذ المطاعم والمشارب وسائر ما يستلذونه وينتفعون به وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا أجمل سبحانه هذا الكثير ولم يبين أنواعه فأفاد ذلك أن بني آدم فضلهم سبحانه على كثير من مخلوقاته ، وقد جعل بعض أهل العلم الكثير هنا بمعنى الجميع وهو تعسف لا حاجة إليه .
وقد شغل كثير من أهل العلم بما لم تكن إليه حاجة ولا تتعلق به فائدة ، وهو مسألة ، ومن جملة ما تمسك به مفضلو الأنبياء على الملائكة هذه الآية ، ولا دلالة لها على المطلوب لما عرفت من إجمال الكثير وعدم تبيينه ، والتعصب في هذه المسألة هو الذي حمل بعض الأشاعرة على تفسير الكثير هنا بالجميع ؛ حتى يتم له التفضيل على الملائكة ، وتمسك بعض تفضيل الملائكة على الأنبياء أو الأنبياء على الملائكة المعتزلة بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء ، ولا دلالة بها على ذلك ، فإنه لم يقم دليل على أن الملائكة من القليل الخارج عن هذا الكثير ، ولو سلمنا ذلك فليس فيما خرج عن هذا الكثير ما يفيد أنه أفضل من بني آدم ، بل غاية ما فيه أنه لم يكن الإنسان مفضلا عليه ، فيحتمل أن يكون مساويا للإنسان ، ويحتمل أن يكون أفضل منه ، ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال ، والتأكيد بقوله : ( تفضيلا ) يدل على عظم هذا التفضيل وأنه بمكان مكين ، فعلى بني آدم أن يتلقوه بالشكر ويحذروا من كفرانه .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم في قوله : ( يزجي ) قال : يجري ، وأخرجوا عن ابن عباس قتادة قال : يسيرها في البحر .
وأخرج ابن المنذر ، عن في قوله : ( حاصبا ) قال : مطر الحجارة . ابن عباس
وأخرج ابن جرير ، عن وابن أبي حاتم قتادة قال : حجارة من السماء .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، عن ابن عباس قاصفا من الريح قال : التي تغرق .
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن قال : القاصف والعاصف في البحر . عبد الله بن عمرو
وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم في قوله : ( قاصفا ) قال : عاصفا ، وفي قوله : ابن عباس ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا قال : نصيرا .
وأخرج الطبراني والبيهقي في الشعب والخطيب في تاريخه عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : عبد الله بن عمرو ما من شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم ، قيل : يا رسول الله ولا الملائكة ؟ قال : ولا الملائكة ، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر وأخرجه البيهقي من وجه آخر ، عن ابن عمرو موقوفا قال : وهو الصحيح .
وأخرج البيهقي في الشعب عن قال : المؤمن أكرم على الله من ملائكته . أبي هريرة
وأخرج ، عن الطبراني ابن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو ، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة ، قال : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان . إن الملائكة قالت : يا رب أعطيت بني
وأخرجه عبد الرزاق ، عن وابن جرير قال : قالت الملائكة . زيد بن أسلم
وإسناد هكذا : حدثنا الطبراني حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي ، إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي ، حدثنا حدثنا حجاج بن محمد ، ، عن أبو غسان محمد بن مطرف بن سليم ، عن عطاء بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكره . عبد الله بن عمرو
وأخرج من طريق ابن عساكر قال : حدثني عروة بن رويم عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فذكر نحو حديث أنس بن مالك ابن عمرو الأول مع زيادة .
وأخرج نحوه البيهقي أيضا في الأسماء والصفات من وجه آخر عن ، عن عروة بن رويم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكره . جابر بن عبد الله
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق ، عن في قوله : ابن عباس ولقد كرمنا بني آدم قال : جعلناهم يأكلون بأيديهم ، وسائر الخلق يأكلون بأفواههم .
وأخرج الحاكم في التاريخ والديلمي ، عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : جابر بن عبد الله الكرامة الأكل بالأصابع .