قد تقدم تفسير أخذ الميثاق ورفع الطور .
والأمر بالسماع معناه الطاعة والقبول ، وليس المراد مجرد الإدراك بحاسة السمع ، ومنه قولهم : سمع الله لمن حمده أي قبل وأجاب ، ومنه قول الشاعر :
دعوت الله حتى خفت أن لا يكون الله يسمع ما أقول
أي يقبل ، وقولهم في الجواب : سمعنا هو على بابه وفي معناه ، أي سمعنا قولك بحاسة السمع وعصيناك ، أي لا نقبل ما تأمرنا به ، ويجوز أن يكونوا أرادوا بقولهم : سمعنا ما هو معهود من تلاعبهم وذلك بأن يحملوا قوله تعالى : واسمعوا على معناه الحقيقي أي السماع بالحاسة . واستعمالهم المغالطة في مخاطبة أنبيائهمثم أجابوا بقولهم : سمعنا أي أدركنا ذلك بأسماعنا عملا بموجب ما تأمر به ، ولكنهم لما كانوا يعلمون أن هذا غير مراد لله عز وجل بل مراده بالأمر بالسماع الأمر بالطاعة والقبول لم يقتصروا على هذه المغالطة بل ضموا إلى ذلك ما هو الجواب عندهم فقالوا : وعصينا ، وفي قوله : وأشربوا تشبيه بليغ ، أي جعلت قلوبهم لتمكن حب العجل منها كأنها تشربه ، ومثله قول زهير :
فصحوت عنها بعد حب داخل والحب تشربه فؤادك داء
وقوله : قل بئسما يأمركم به إيمانكم أي إيمانكم الذي زعمتم أنكم تؤمنون بما أنزل عليكم وتكفرون بما وراءه فإن هذا الصنع وهو قولكم : سمعنا وعصينا في جواب ما أمرتم به في كتابكم وأخذ عليكم الميثاق به مناد عليكم بأبلغ نداء بخلاف ما زعمتم ، وكذلك ما وقع منكم من عبادة العجل ونزول حبه من قلوبكم منزلة الشراب هو من أعظم ما يدل على أنكم كاذبون في قولكم : نؤمن بما أنزل علينا لا صادقون ، فإن زعمتم أن كتابكم الذي آمنتم به أمركم بهذا فبئسما يأمركم به إيمانكم بكتابكم ، وفي هذا من التهكم بهم ما لا يخفى .
وقوله : قل إن كانت لكم الدار الآخرة هو رد عليهم لما ادعوا أنهم يدخلون الجنة ولا يشاركهم في دخولها غيرهم ، وإلزام لهم بما يتبين به أنهم كاذبون في تلك الدعوى ، وأنها صادرة منهم لا عن برهان ، [ ص: 77 ] و خالصة منصوب على الحال ، ويكون خبر " كان " هو عند الله أو يكون خبر " كان " هو خالصة ، ومعنى الخلوص أنه لا يشاركهم فيها غيرهم إذا كانت اللام في قوله : من دون الناس للجنس أو لا يشاركهم فيها المسلمون إن كانت اللام للعهد .
وهذا أرجح لقولهم في الآية الأخرى : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وإنما أمرهم بتمني الموت لأن ولما كان ذلك منهم مجرد دعوى أحجموا . من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة ،
ولهذا قال سبحانه : ولن يتمنوه أبدا و " ما " في قوله : بما قدمت أيديهم موصولة ، والعائد محذوف ، أي بما قدمته من الذنوب التي يكون فاعلها غير آمن من العذاب بل غير طامع في دخول الجنة ، فضلا عن كونه قاطعا بها فضلا عن كونها خالصة له مختصة به - وقيل : إن الله سبحانه صرفهم عن التمني ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم .
والمراد بالتمني هنا : هو التلفظ بما يدل عليه ، لا مجرد خطوره بالقلب وميل النفس إليه ، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجة ومواطن الخصومة ومواقف التحدي ، وفي تركهم للتمني أو صرفهم عنه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم قد كانوا يسلكون من التعجرف والتجرؤ على الله وعلى أنبيائه بالدعاوى الباطلة في غير موطن ما قد حكاه عنهم التنزيل ، فلم يتركوا عادتهم هنا إلا لما قد تقرر عندهم من أنهم إذا فعلوا ذلك التمني نزل بهم الموت ، إما لأمر قد علموه ، أو للصرفة من الله عز وجل .
وقد يقال : ثبت النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن فكيف أمره الله أن يأمرهم بما هو منهي عنه في شريعته . تمني الموت
ويجاب بأن المراد هنا إلزامهم الحجة ، وإقامة البرهان على بطلان دعواهم .
وقوله : والله عليم بالظالمين تهديد لهم وتسجيل عليهم بأنهم كذلك .
واللام في قوله : ولتجدنهم جواب قسم محذوف ، وتنكير " حياة " للتحقير ، أي أنهم أحرص الناس على أحقر حياة وأقل لبث في الدنيا ، فكيف بحياة كثيرة ولبث متطاول ؟ وقال في الكشاف : إنه أراد بالتنكير حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة ، وتبعه في ذلك الرازي في تفسيره .
وقوله : ومن الذين أشركوا قيل : هو كلام مستأنف ، والتقدير : ومن الذين أشركوا ناس يود أحدهم وقيل : إنه معطوف على الناس ، أي أحرص الناس وأحرص من الذين أشركوا ، وعلى هذا يكون قوله : يود أحدهم راجعا إلى اليهود بيانا لزيادة حرصهم على الحياة ، ووجه ذكر " الذين أشركوا " بعد ذكر " الناس " مع كونهم داخلين فيهم الدلالة على مزيد حرص المشركين من العرب ومن شابههم من غيرهم .
فمن كان أحرص منهم وهم اليهود كان بالغا في الحرص إلى غاية لا يقادر قدرها .
وإنما بلغوا في الحرص إلى هذا الحد الفاضل على حرص المشركين ، لأنهم يعلمون بما يحل بهم من العذاب في الآخرة ، بخلاف المشركين من العرب ونحوهم فإنهم لا يقرون بذلك ، وكان حرصهم على الحياة دون حرص اليهود .
والأول وإن كان فيه خروج من الكلام في اليهود إلى غيرهم من مشركي العرب لكنه أرجح لعدم استلزامه للتكليف ، ولا ضير في استطراد ذكر حرص المشركين بعد ذكر حرص اليهود .
وقال الرازي : إن الثاني أرجح ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم إن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا . انتهى .
ويجاب عنه بأن هذا الذي جعله مرجحا قد أفاده قوله تعالى : ولتجدنهم أحرص الناس ولا يستلزم استئناف الكلام في المشركين أن لا يكونوا من جملة الناس ، وخص الألف بالذكر لأن العرب كانت تذكر ذلك عند إرادة المبالغة .
وأصل سنة : سنهة ، وقيل : سنوة .
واختلف في الضمير في قوله : وما هو بمزحزحه فقيل : هو راجع إلى ( أحدهم ) والتقدير : وما أحدهم بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، وعلى هذا يكون قوله : أن يعمر فاعلا لمزحزحه ، وقيل : هو لما دل عليه ( يعمر ) من مصدره ، أي وما التعمير بمزحزحه ، ويكون قوله : أن يعمر بدلا منه .
وحكى عن فرقة أنها قالت : ( هو ) عماد ، وقيل : ( هو ) ضمير الشأن ، وقيل : " ما " هي الحجازية ، والضمير اسمها ، وما بعده خبرها ، والأول أرجح ، وكذلك الثاني ، والثالث ضعيف جدا لأن العماد لا يكون إلا بين شيئين ، ولهذا يسمونه ضمير الفصل ، والرابع فيه أن ضمير الشأن يفسر بجملة سالمة عن حرف جر كما حكاه الطبري ابن عطية عن النحاة .
والزحزحة : التنحية ، يقال : زحزحته فتزحزح ، أي نحيته فتنحى وتباعد ، ومنه قول : ذي الرمة
يا قابض الروح عن جسم عصى زمنا وغافر الذنب زحزحني عن النار
فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب
وأخرج عن ابن جرير أبي العالية أن اليهود لما قالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى الآية ، نزل قوله تعالى : قل إن كانت لكم الدار الآخرة الآية .
وأخرج مثله عن ابن جرير قتادة .
وأخرج البيهقي في الدلائل عن أن قوله : ابن عباس خالصة من دون الناس يعني المؤمنين فتمنوا الموت فقال لهم رسول الله : إن كنتم في مقالتكم صادقين فقولوا : اللهم أمتنا ، فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلا غص بريقه فمات مكانه .
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس فتمنوا الموت أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب ، فأبوا ذلك ، ولو تمنوه يوم قال ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات .
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وأبو نعيم عنه قال : " لو تمنى اليهود الموت لماتوا " .
وأخرج ابن جرير عنه نحوه . وابن أبي حاتم
وأخرج وغيره من حديثه مرفوعا : البخاري اليهود تمنوا لماتوا ولرأوا مقاعدهم في النار . لو كان
وأخرج [ ص: 78 ] ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه في قوله : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة قال : اليهود ومن الذين أشركوا قال : وذلك أن المشركين لا يرجون بعثا بعد الموت فهو يحب طول الحياة ، وأن اليهودي قد عرف ما له من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم وما هو بمزحزحه قال : بمنحيه .
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم عنه في قوله : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة قال : هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم " ذه هز ارسال " يعني عش ألف سنة .