وحكي عن النقاش أنه نزل بالمدينة منها عشر آيات . قال القرطبي وقال الجمهور : إن السورة مختلطة ، منها مكي ، ومنها مدني . قال : وهذا هو الصحيح . قال العزيزي : وهي من أعاجيب السور نزلت ليلا ونهارا ، سفرا وحضرا ، مكيا ومدنيا ، سلميا وحربيا ، ناسخا ومنسوخا ، محكما ومتشابها . وقد ورد في فضلها ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن قال عقبة بن عامر . قال قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ؟ قال : نعم ، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما الترمذي : هذا حديث ليس إسناده بالقوي . وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي عن أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : خالد بن معدان فضلت سورة الحج على القرآن بسجدتين . وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والإسماعيلي وابن مردويه والبيهقي عن عمر أنه كان يسجد سجدتين في الحج وقال : إن هذه السورة فضلت على سائر القرآن بسجدتين . وقد روي عن كثير من الصحابة أن فيها سجدتين ، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق . وقال بعضهم : إن فيها سجدة واحدة ، وهو قول وأخرجه سفيان الثوري ، عن ابن أبي شيبة ابن عباس . وإبراهيم النخعي
بسم الله الرحمن الرحيم .
يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور . لما انجر الكلام في خاتمة السورة المتقدمة إلى ذكر الإعادة وما قبلها وما بعدها ، بدأ سبحانه في هذه السورة بذكر حثا على التقوى التي هي أنفع زاد فقال : القيامة وأهوالها ياأيها الناس اتقوا ربكم أي احذروا عقابه بفعل ما أمركم به من الواجبات وترك ما نهاكم عنه من المحرمات ، ولفظ الناس يشمل جميع المكلفين من الموجودين ومن سيوجد على ما تقرر في موضعه ، وقد قدمنا طرفا من تحقيق ذلك في سورة البقرة ، وجملة إن زلزلة الساعة شيء عظيم تعليل لما قبلها من الأمر بالتقوى ، والزلزلة شدة الحركة ، وأصلها من زل عن الموضع : أي زال عنه وتحرك ، وزلزل الله قدمه : أي حركها ، وتكرير الحرف يدل على تأكيد المعنى ، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله ، وهي على هذا : ، هذا قول الجمهور ، وقيل : إنها تكون في النصف من شهر رمضان ، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها ، وقيل : إن المصدر هنا مضاف إلى الظرف ، وهو الساعة إجراء له مجرى المفعول ، أو بتقدير في كما في قوله : الزلزلة التي هي أحد أشراط الساعة التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة بل مكر الليل والنهار [ سبأ : 33 ] وهي المذكورة في قوله : إذا زلزلت الأرض زلزالها [ الزلزلة : 1 ] قيل وفي التعبير عنها بالشيء إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها . يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت [ ص: 953 ] انتصاب الظرف بما بعده ، والضمير يرجع إلى الزلزلة : أي وقت رؤيتكم لها تذهل كل ذات رضاع عن رضيعها وتغفل عنه . قال قطرب : تذهل تشتغل ، وأنشد قول الشاعر :
ضرب يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله
وقيل : تنسى ، وقيل : تلهو ، وقيل : تسلو ، وهذه معانيها متقاربة . قال : إن ما فيما أرضعت بمعنى المصدر : أي تذهل عن الإرضاع ، قال : وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا ، إذ ليس بعد القيامة حمل وإرضاع ، إلا أن يقال : من ماتت حاملا فتضع حملها للهول ، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك ، ويقال هذا مثل كما يقال : المبرد يوما يجعل الولدان شيبا [ المزمل : 17 ] وقيل : يكون من النفخة الأولى ، قال : ويحتمل أن تكون الساعة عبارة عن أهوال يوم القيامة ، كما في قوله مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ومعنى [ البقرة : 214 ] وتضع كل ذات حمل حملها أنها تلقي جنينها لغير تمام من شدة الهول ، كما أن المرضعة تترك ولدها بغير رضاع لذلك وترى الناس سكارى قرأ الجمهور بفتح التاء والراء خطاب لكل واحد : أي يراهم الرائي كأنهم سكارى وما هم بسكارى حقيقة ، قرأ حمزة ( سكرى ) بغير ألف ، وقرأ الباقون بإثباتها وهما لغتان يجمع بهما سكران ، مثل كسلى وكسالى ، ولما نفى سبحانه عنهم السكر أوضح السبب الذي لأجله شابهوا السكارى فقال : والكسائي ولكن عذاب الله شديد فبسبب هذه الشدة والهول العظيم طاشت عقولهم ، واضطربت أفهامهم فصاروا كالسكارى ، بجامع سلب كمال التمييز وصحة الإدراك وقرئ وترى بضم التاء وفتح الراء مسندا إلى المخاطب من أرأيتك : أي تظنهم سكارى . قال الفراء ولهذه القراءة وجه جيد في العربية . ثم لما أراد سبحانه أن يحتج على قدم قبل ذلك مقدمة تشمل أهل الجدال كلهم فقال : منكري البعث ومن الناس من يجادل في الله بغير علم وقد تقدم إعراب مثل هذا التركيب في قوله : ومن الناس من يقول [ البقرة : 8 ] ومعنى في الله في شأن الله وقدرته ، ومحل بغير علم النصب على الحال . والمعنى : أنه يخاصم في قدرة الله فيزعم أنه غير قادر على البعث بغير علم يعلمه ، ولا حجة يدلي بها ويتبع فيما يقوله ويتعاطاه ويحتج به ويجادل عنه كل شيطان مريد أي متمرد على الله وهو العاتي ، سمي بذلك لخلوه عن كل خير ، والمراد إبليس وجنوده أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر . وقال الواحدي : قال المفسرون : نزلت في النضر بن الحارث وكان كثير الجدال ، وكان ينكر أن الله يقدر على إحياء الأموات ، وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة .كتب عليه أنه من تولاه أي كتب على الشيطان ، وفاعل كتب أنه من تولاه ، والضمير للشأن : أي من اتخذ وليا فأنه يضله أي فشأن الشيطان أن يضله عن طريق الحق ، فقوله أنه يضله جواب الشرط إن جعلت من شرطية أو خبر الموصول إن جعلت موصولة ، فقد وصف الشيطان بوصفين : الأول أنه مريد ، والثاني ما أفاده جملة كتب عليه إلخ . وجملة ويهديه إلى عذاب السعير معطوفة على جملة يضله : أي يحمله على مباشرة ما يصير به في عذاب السعير . ثم ذكر سبحانه ما هو المقصود من الاحتجاج على الكفار بعد فراغه من تلك المقدمة ، فقال : يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث قرأ الحسن البعث بفتح العين وهي لغة ، وقرأ الجمهور بالسكون ، وشكهم يحتمل أن يكون في وقوعه أو في إمكانه . والمعنى : إن كنتم في شك من الإعادة فانظروا في مبدأ خلقكم أي خلق أبيكم آدم ليزول عنكم الريب ويرتفع الشك وتدحض الشبهة الباطلة فإنا خلقناكم من تراب في ضمن خلق أبيكم آدم ثم خلقناكم من نطفة أي من مني ، سمي نطفة لقلته ، والنطفة : القليل من الماء . وقد يقع على الكثير منه ، والنطفة : القطرة ، يقال نطف ينطف : أي قطر ، وليلة نطوف : أي دائمة القطر ثم من علقة والعلقة : الدم الجامد ، والعلق : الدم العبيط : أي الطري أو المتجمد ، وقيل : الشديد الحمرة والمراد الدم الجامد المتكون من المني ثم من مضغة وهي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضغ تتكون من العلقة مخلقة بالجر صفة لمضغة : أي مستبينة الخلق ظاهرة التصوير وغير مخلقة أي لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها . قال : مخلقة يريد قد بدا خلقه ، وغير مخلقة لم تصور . قال الأكثر : ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه فهو المخلقة وهو الذي ولد لتمام ، وما سقط كان غير مخلقة أي غير حي بإكمال خلقته بالروح . قال ابن الأعرابي الفراء : مخلقة تام الخلق ، وغير مخلقة : السقط ، ومنه قول الشاعر :
أفي غير المخلقة البكاء فأين الحزم ويحك والحياء
يلحينني من حبها ويلمنني إن العواذل لسن لي بأمير
قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا وأرى ثيابك باليات همودا
وجملة ذلك بأن الله هو الحق مستأنفة ، لما ذكر افتقار الموجودات إليه سبحانه وتسخيرها على وفق إرادته واقتداره . قال بعد ذلك هذه المقالات ، وهي . والمعنى : أنه المتفرد بهذه الأمور وأنها من شأنه لا يدعي غيره أنه يقدر على شيء منها ، فدل سبحانه بهذا على أنه الحق الحقيقي الغني المطلق ، وأن وجود كل موجود مستفاد منه ، والحق هو الموجود الذي لا يتغير ولا يزول ، وقيل : ذو الحق على عباده ، وقيل : الحق في أفعاله . قال إثبات أنه سبحانه الحق ، وأنه المتفرد بإحياء الموتى ، وأنه قادر على كل شيء من الأشياء : ذلك في موضع رفع : أي الأمر ما وصفه لكم وبين بأن الله هو الحق . قال : ويجوز أن يكون ذلك نصبا . ثم أخبر سبحانه بأن الزجاج الساعة آتية أي في مستقبل الزمان ، قيل لا بد من إضمار فعل : أي ولتعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها أي لا شك فيها ولا تردد ، وجملة لا ريب فيها خبر ثان للساعة ، أو في محل نصب على الحال . ثم أخبر سبحانه عن البعث فقال : وأن الله يبعث من في القبور فيجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وأن ذلك كائن لا محالة . وقد أخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد وصححه ، والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، وابن مردويه من طرق عن الحسن وغيره عن قال : عمران بن حصين ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم إلى قوله : لما نزلت ولكن عذاب الله شديد أنزلت عليه هذه وهو في سفر ، فقال : أتدرون أي يوم ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذلك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار ، قال : يا رب وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار ، وواحدا إلى الجنة ، فأنشأ المسلمون يبكون ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : قاربوا وسددوا وأبشروا ، فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فتؤخذ العدة من الجاهلية ، فإن تمت وإلا كملت من المنافقين ، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة ، أو كالشامة في جنب البعير ، ثم قال : ، ثم قال : إني أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا ، ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا ، قال : ولا أدري قال الثلثين أم لا إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا . وأخرج الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر عن مرفوعا نحوه ، وقال في آخره : عمران بن حصين محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير ، أو كالرقمة في ذراع الدابة . وأخرج اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانت مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ، ومن مات من بني آدم ومن بني إبليس ، فسري عن القوم بعض الذي يجدون قال : اعملوا وأبشروا ، فوالذي نفس عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أنس مرفوعا نحوه . وأخرج البزار وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أنس مرفوعا نحوه أيضا ، وفي الصحيحين وغيرهما عن قال : قال النبي [ ص: 955 ] - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكر نحوه ، وفي آخره فقال : أبي سعيد الخدري يأجوج ومأجوج ألف ومنكم واحد ، وهل أنتم في الأمم إلا كالشعرة السوداء في الثور الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود . وأخرج من عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم قتادة في قوله : كتب عليه قال : كتب على الشيطان . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد مثله أنه من تولاه قال : اتبعه . وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن قال : حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو الصادق المصدوق ابن مسعود ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا . وأخرج وصححه عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس مخلقة وغير مخلقة قال : المخلقة ما كان حيا ، وغير المخلقة ما كان سقطا . وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس من كل زوج بهيج قال : حسن . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن قال : من علم أن الله - عز وجل - حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور دخل الجنة . معاذ بن جبل