محل ( ذلك ) الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : الأمر ذلك ، أو مبتدأ خبره محذوف أو في محل نصب بفعل محذوف أي : افعلوا ذلك ، والمشار إليه هو ما سبق من أعمال الحج ، وهذا وأمثاله يطلق للفصل بين الكلامين أو بين طرفي كلام واحد ، والحرمات جمع حرمة .
قال : الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه ، وهي في هذه الآية ما نهي عنها ومنع من الوقوع فيها . الزجاج
والظاهر من الآية عموم كل حرمة في الحج وغيره كما يفيده اللفظ وإن كان السبب خاصا ، وتعظيمها ترك ملابستها فهو خير له أي فالتعظيم خير له عند ربه يعني في الآخرة من التهاون بشيء منها .
وقيل : إن صيغة التفضيل هنا لا يراد بها معناها الحقيقي ، بل المراد أن ذلك التعظيم خير ينتفع به ، فهي عدة بخير وأحلت لكم الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم إلا ما يتلى عليكم أي في الكتاب العزيز من المحرمات ، وهي الميتة وما ذكر معها في سورة المائدة . وقيل : في قوله إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم .
فاجتنبوا الرجس من الأوثان الرجس : القذر ، والوثن : التمثال ، وأصله من وثن الشيء أي : أقام في مقامه ، وسمي الصليب وثنا ؛ لأنه ينصب ويركز في مقامه ، فلا يبرح عنه ، والمراد اجتناب عبادة الأوثان ، وسماها رجسا ؛ لأنها سبب الرجس وهو العذاب .
وقيل : جعلها سبحانه رجسا حكما ، والرجس النجس ، وليست النجاسة وصفا ذاتيا لها ولكنها وصف شرعي ، فلا تزول إلا بالإيمان كما أنها لا تزول النجاسة الحسية إلا بالماء .
قال : من هنا لتخليص جنس من أجناس أي : فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن الزجاج واجتنبوا قول الزور الذي هو الباطل ، وسمي زورا ؛ لأنه مائل عن الحق ، ومنه قوله تعالى : تزاور عن كهفهم وقولهم مدينة زوراء أي : مائلة ، والمراد هنا قول الزور على العموم ، وأعظمه الشرك بالله بأي لفظ كان .
وقال : المراد بقول الزور هاهنا تحليلهم بعض الأنعام وتحريمهم بعضها ، وقولهم هذا حلال وهذا حرام ، وقيل : المراد به شهادة الزور . الزجاج
وانتصاب حنفاء على الحال أي : مستقيمين على الحق ، أو مائلين إلى الحق .
ولفظ حنفاء من الأضداد يقع على الاستقامة ، ويقع على الميل ، وقيل : معناه حجاجا ، ولا وجه لهذا غير مشركين به هو حال كالأول أي : غير مشركين به شيئا من الأشياء كما يفيده الحذف من العموم ، وجملة ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء مبتدأة مؤكدة لما قبلها من الأمر بالاجتناب ، ومعنى خر من السماء : سقط إلى الأرض أي : انحط من رفيع الإيمان إلى حضيض الكفر فتخطفه الطير ، يقال خطفه يخطفه إذا سلبه ، ومنه قوله : يخطف أبصارهم [ البقرة : 20 ] أي تخطف لحمه وتقطعه بمخالبها .
قرأ أبو جعفر ونافع بتشديد الطاء وفتح الخاء ، وقرئ بكسر الخاء والطاء وبكسر التاء مع كسرهما أو تهوي به الريح أي تقذفه وترمي به في مكان سحيق أي بعيد ، يقال سحق يسحق سحقا فهو سحاق إذا بعد .
قال : أعلم الله أن بعد من أشرك به من الحق كبعد ما خر من السماء ، فتذهب به الطير أو هوت به الريح في مكان بعيد . الزجاج
ذلك ومن يعظم شعائر الله الكلام في هذه الإشارة قد تقدم قريبا والشعائر جمع الشعيرة ، وهي كل شيء فيه لله تعالى شعار ، ومنه شعار القوم في الحرب ، وهو علامتهم التي يتعارفون بها ، ومنه إشعار البدن ، وهو الطعن في جانبها الأيمن ، فشعائر الله أعلام دينه ، وتدخل الهدايا في الحج دخولا أوليا ، والضمير في قوله : فإنها من تقوى القلوب راجع إلى الشعائر بتقدير مضاف محذوف أي : فإن تعظيمها من تقوى القلوب أي : من أفعال القلوب التي هي من التقوى ، فإن هذا التعظيم ناشئ من التقوى .
لكم فيها منافع أي في الشعائر على العموم ، أو على الخصوص ، وهي البدن كما يدل عليه السياق .
ومن منافعها الركوب والدر والنسل والصوف وغير ذلك إلى أجل مسمى وهو وقت نحرها ثم محلها إلى البيت العتيق أي حيث يحل نحرها ، والمعنى : أنها تنتهي إلى البيت وما يليه من الحرم ، فمنافعهم الدنيوية المستفادة منها مستمرة إلى وقت نحرها ، ثم تكون منافعها بعد ذلك دينية .
وقيل : إن محلها هاهنا مأخوذ من إحلال الحرام ، والمعنى : أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي تنتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت ، فالبيت على هذا مراد بنفسه .
ولكل أمة جعلنا منسكا المنسك [ ص: 964 ] هاهنا المصدر من نسك ينسك إذا ذبح القربان ، والذبيحة نسيكة ، وجمعها نسك .
وقال الأزهري : إن المراد بالمنسك في الآية موضع النحر ، ويقال منسك بكسر السين وفتحها لغتان قرأ بالكسر الكوفيون إلا عاصما وقرأ الباقون بالفتح .
وقال الفراء : المنسك في كلام العرب : الموضع المعتاد في خير أو شر ، وقال ابن عرفة ولكل أمة جعلنا منسكا أي مذهبا من طاعة الله .
وروي عن الفراء أن المنسك العيد ، وقيل : الحج ، والأول أولى لقوله : ليذكروا اسم الله إلى آخره ، والأمة : الجماعة المجتمعة على مذهب واحد ، والمعنى : وجعلنا لكل أهل دين من الأديان ذبحا يذبحونه ودما يريقونه ، أو متعبدا أو طاعة أو عيدا أو حجا يحجونه ، ليذكروا اسم الله وحده ويجعلوا نسكهم خاصا به على ما رزقهم من بهيمة الأنعام أي على ذبح ما رزقهم منها ، وفيه إشارة إلى أن القربان لا يكون إلا من الأنعام دون غيرها ، وفي الآية دليل على أن المقصود من الذبح المذكور هو ذكر اسم الله عليه .
ثم أخبرهم سبحانه بتفرده بالإلهية وأنه لا شريك له ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، ثم أمرهم بالإسلام له ، والانقياد لطاعته وعبادته ، وتقديم الجار والمجرور على الفعل للقصر ، والفاء هنا كالفاء التي قبلها ، ثم أمر رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن يبشر المخبتين من عباده أي : المتواضعين الخاشعين المخلصين ، وهو مأخوذ من الخبيت ، وهو المنخفض من الأرض ، والمعنى : بشرهم يا محمد بما أعد الله لهم من جزيل ثوابه وجليل عطائه .
وقيل : إن المخبتين هم الذين لا يظلمون غيرهم وإذا ظلمهم غيرهم لم ينتصروا .
ثم وصف سبحانه هؤلاء المخبتين بقوله : الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم أي خافت وحذرت مخالفته ، وحصول الوجل منهم عند الذكر له سبحانه دليل على كمال يقينهم وقوة إيمانهم ، ووصفهم بالصبر على ما أصابهم من البلايا والمحن في طاعة الله ثم وصفهم بإقامة الصلاة أي الإتيان بها في أوقاتها على وجه الكمال .
قرأ الجمهور : والمقيمي الصلاة بالجر على ما هو الظاهر ، وقرأ أبو عمرو بالنصب على توهم بقاء النون ، وأنشد على ذلك قول الشاعر : سيبويه
الحافظ عورة العشيرة
البيت ، بنصب ( عورة ) . وقيل : لم يقرأ بهذه القراءة أبو عمرو ، وقرأ ابن محيصن ( والمقيمين ) بإثبات النون على الأصل ، ورويت هذه القراءة عن ثم وصفهم سبحانه بقوله : ابن مسعود ، ومما رزقناهم ينفقون أي يتصدقون به وينفقونه في وجوه البر ، ويضعونه في مواضع الخير ومثل هذه الآية قوله سبحانه : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون .وقد أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : حرمات الله قال : الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها .
وأخرج عن ابن جرير في قوله : ابن عباس فاجتنبوا الرجس من الأوثان يقول : اجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان واجتنبوا قول الزور يعني الافتراء على الله والتكذيب به .
وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن أيمن بن خريم قال : قام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خطيبا فقال : ، ثم قرأ عدلت شهادة الزور شركا بالله ثلاثا فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور . يا أيها الناس
قال أحمد غريب إنما نعرفه من حديث سفيان بن زيد .
وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث ، ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعا من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - .
وقد أخرجه أحمد و عبد بن حميد وأبو داود وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب من حديث خريم .
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ثلاثا ، قلنا بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وكان متكئا ، فجلس فقال : ألا وقول الزور ، ألا وشهادة الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت بأكبر الكبائر . ألا أنبئكم
وأخرج ابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس حنفاء لله غير مشركين به قال : حجاجا لله غير مشركين به ، وذلك أن الجاهلية كانوا يحجون مشركين ، فلما أظهر الله الإسلام ، قال الله للمسلمين : حجوا الآن غير مشركين بالله .
وأخرج عن ابن أبي حاتم نحوه . أبي بكر الصديق
وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس ومن يعظم شعائر الله قال : البدن .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم ابن عباس ومن يعظم شعائر الله قال : الاستسمان والاستحسان والاستعظام ، وفي قوله : لكم فيها منافع إلى أجل مسمى قال : إلى أن تسمى بدنا .
وأخرج هؤلاء عن مجاهد نحوه ، وفيه قال : ولكم فيها منافع إلى أجل مسمى ، في ظهورها وألبانها وأوبارها وأشعارها وأصوافها إلى أن تسمى هديا ، فإذا سميت هديا ذهبت المنافع ثم محلها يقول : حين تسمى إلى البيت العتيق ، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال : إذا دخلت الحرم فقد بلغت محلها .
وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس ولكل أمة جعلنا منسكا قال : عيدا .
وأخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد في الآية قال : إهراق الدماء .
وأخرج عن ابن أبي حاتم عكرمة قال : ذبحا .
وأخرج عن ابن أبي حاتم في الآية قال : زيد بن أسلم مكة لم يجعل الله لأمة منسكا غيرها .
وقد وردت أحاديث في الأضحية ليس هذا موضع ذكرها .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : وبشر المخبتين قال : المطمئنين .
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد في ذم الغضب وابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن [ ص: 965 ] عمرو بن أوس قال : المخبتون في الآية الذين لا يظلمون الناس ، وإذا ظلموا لم ينتصروا .