وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير .
عاد سبحانه إلى بيان أمر التكاليف مع الزجر لمعاصري رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من أهل الأديان عن منازعته فقال : لكل أمة جعلنا منسكا أي لكل قرن من القرون الماضية وضعنا شريعة خاصة ، بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى الأخرى ، وجملة هم ناسكوه صفة لمنسكا ، والضمير لكل أمة أي : تلك الأمة هي العاملة به لا غيرها ، فكانت التوراة منسك الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى ، والإنجيل منسك الأمة التي من مبعث عيسى إلى مبعث محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، والقرآن منسك المسلمين . والمنسك مصدر لا اسم مكان كما يدل عليه ، هم ناسكوه ، ولم يقل ناسكون فيه .
وقيل : المنسك موضع أداء الطاعة ، وقيل : هو الذبائح ، ولا وجه للتخصيص ، ولا اعتبار بخصوص السبب ، والفاء في قوله : فلا ينازعنك في الأمر لترتيب النهي على ما قبله ، والضمير راجع إلى الأمم الباقية آثارهم أي : قد عينا ، ومن جملة الأمم هذه الأمة المحمدية ، وذلك موجب لعدم منازعة من بقي منهم لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومستلزم لطاعتهم إياه في أمر الدين ، والنهي إما على حقيقته ، أو كناية عن نهيه - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الالتفات إلى نزاعهم له . لكل أمة شريعة
قال : إنه نهي له - صلى الله عليه وآله وسلم - عن منازعتهم أي : لا تنازعهم أنت كما تقول لا يخاصمك فلان أي : لا تخاصمه ، وكما تقول لا يضاربنك فلان أي : لا تضاربه ، وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمنا ، ولا يجوز لا يضربنك فلان وأنت تريد لا تضربه . الزجاج
وحكي عن أنه قال في معنى الآية : فلا ينازعنك أي : فلا يجادلنك . قال : ودل على هذا الزجاج وإن جادلوك وقرأ أبو مجلز ( فلا ينزعنك في الأمر ) أي لا يستخفنك ولا يغلبنك على دينك .
وقرأ الباقون ينازعنك من المنازعة وادع إلى ربك أي وادع هؤلاء المنازعين أو ادع الناس على العموم إلى دين الله وتوحيده والإيمان به إنك لعلى هدى مستقيم أي طريق مستقيم لا اعوجاج فيه .
وإن جادلوك أي وإن أبوا إلا الجدال بعد البيان وظهور الحجة عليهم فقل الله أعلم بما تعملون أي فكل أمرهم إلى الله وقل لهم هذا القول المشتمل على الوعيد .
الله يحكم بينكم أي بين المسلمين والكافرين ، يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون من أمر الدين فيتبين حينئذ الحق من الباطل ، وفي هذه الآية تعليم لهذه الأمة بما ينبغي لهم أن يجيبوا به من أراد الجدال بالباطل ، وقيل : إنها منسوخة بآية السيف .
وجملة ألم تعلم مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها ، والاستفهام للتقرير أي : قد علمت يا محمد وتيقنت أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ومن جملة ذلك ما أنتم فيه مختلفون إن ذلك الذي في السماء والأرض من معلوماته في كتاب أي مكتوب عنده في أم الكتاب إن ذلك على الله يسير أي إن الحكم منه سبحانه بين عباده فيما يختلفون فيه يسير عليه غير عسير ، أو إن إحاطة علمه بما في السماء والأرض يسير عليه .
ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا [ ص: 974 ] هذا حكاية لبعض فضائحهم أي : إنهم يعبدون أصناما لم يتمسكوا في عبادتها بحجة نيرة من الله سبحانه وما ليس لهم به علم من دليل عقل يدل على جواز ذلك بوجه من الوجوه وما للظالمين من نصير ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله ، وقد تقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران .
وجملة وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات معطوفة على يعبدون ، وانتصاب بينات على الحال أي : حال كونها واضحات ظاهرات الدلالة تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر أي الأمر الذي ينكر ، وهو غضبهم وعبوسهم عند سماعهم ، أو المراد بالمنكر الإنكار أي : تعرف في وجوههم إنكارها ، وقيل : هو التجبر والترفع ، وجملة يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما ذلك المنكر الذي يعرف في وجوههم ؟ فقيل يكادون يسطون أي : يبطشون ، والسطوة شدة البطش ، يقال سطا به يسطو إذا بطش به بضرب ، أو شتم ، أو أخذ باليد ، وأصل السطو القهر .
وهكذا ترى أهل البدع المضلة إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليهم من آيات الكتاب العزيز ، أو من السنة الصحيحة مخالفا لما اعتقده من الباطل والضلالة رأيت في وجهه من المنكر ما لو تمكن من أن يسطو بذلك العالم لفعل به ما لا يفعله بالمشركين ، وقد رأينا وسمعنا من أهل البدع ما لا يحيط به الوصف ، والله ناصر الحق ومظهر الدين وداحض الباطل ودامغ البدع وحافظ المتكلمين - بما أخذه عليهم - المبينين للناس ما نزل إليهم . وهو حسبنا ونعم الوكيل ، ثم أمر رسوله أن يرد عليهم ، فقال : قل أفأنبئكم أي أخبركم بشر من ذلكم الذي فيكم من الغيظ على من يتلو عليكم آيات الله ومقاربتكم للوثوب عليهم ، وهو النار التي أعدها الله لكم ، فالنار مرتفعة على أنها خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ما هذا الأمر الذي هو شر مما نكابده ونناهده عند سماعنا ما تتلوه علينا ، فقال هو النار وعدها الله الذين كفروا وقيل : إن النار مبتدأ وخبره جملة وعدها الله الذين كفروا وقيل : المعنى : أفأخبركم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم من الأذى والتوعد لهم والتوثب عليهم ، وقرئ ( النار ) بالنصب على تقدير أعني ، وقرئ بالجر بدلا من شر ، وبئس المصير أي الموضع الذي تصيرون إليه ، وهو النار .
وقد أخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس هم ناسكوه قال : يعني هم ذابحوه فلا ينازعنك في الأمر يعني في أمر الذبح . وأخرج عن عبد بن حميد عكرمة نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد نحوه أيضا .
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : فلا ينازعنك في الأمر قول أهل الشرك : أما ما ذبح الله بيمينه فلا تأكلوه ، وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال .
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن قال : خلق الله اللوح المحفوظ لمسير مائة عام ، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش : اكتب ، قال : ما أكتب ؟ قال : علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة ، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة ، فذلك قوله للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ابن عباس ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض يعني ما في السماوات السبع والأرضين السبع إن ذلك العلم في كتاب يعني في اللوح المحفوظ مكتوب قبل أن يخلق السماوات والأرضين إن ذلك على الله يسير يعني هين .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم ابن عباس يكادون يسطون يبطشون .