لما بين - سبحانه - كيفية التعظيم لأمر الله أشار إلى ما ينبغي من فقال : مواساة القرابة وأهل الحاجات ممن بسط الله له في رزقه فآت ذا القربى حقه والخطاب للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأمته أسوته ، أو لكل مكلف له مال وسع الله به عليه ، وقدم الإحسان إلى القرابة لأن خير الصدقة ما كان على قريب ، فهو صدقة مضاعفة وصلة رحم مرغوب فيها ، والمراد الإحسان إليهم بالصدقة والصلة والبر والمسكين وابن السبيل أي : وآت المسكين وابن السبيل حقهما الذي يستحقانه .
ووجه تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر أنهم أولى من سائر الأصناف بالإحسان ، ولكون ذلك واجبا لهم على كل من له مال فاضل عن كفايته وكفاية من يعول .
وقد اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟ فقيل : هي منسوخة بآية المواريث .
وقيل : محكمة وللقريب في مال قريبه الغني حق واجب ، وبه قال مجاهد ، وقتادة .
قال مجاهد : لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاج .
قال مقاتل : حق المسكين أن يتصدق عليه ، وحق ابن السبيل الضيافة .
وقيل : المراد بالقربى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - .
قال القرطبي : والأول أصح ، فإن حقهم مبين في كتاب الله - عز وجل - في قوله : فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى [ الأنفال : 41 ] وقال الحسن : إن الأمر في إيتاء القربى للندب ذلك خير للذين يريدون وجه الله أي : ذلك الإيتاء أفضل من الإمساك لمن يريد التقرب إلى الله - سبحانه - وأولئك هم المفلحون أي : الفائزون بمطلوبهم حيث أنفقوا لوجه الله امتثالا لأمره .
وما آتيتم من ربا قرأ الجمهور " آتيتم " بالمد بمعنى أعطيتم ، وقرأ مجاهد وحميد ، وابن كثير بالقصر بمعنى ما فعلتم ، وأجمعوا على القراءة بالمد في قوله وما آتيتم من زكاة وأصل الربا الزيادة ، وقراءة القصر تئول إلى قراءة المد ، لأن معناها ما فعلتم على وجه الإعطاء ، كما تقول : أتيت خطأ وأتيت صوابا ؛ والمعنى في الآية : ما أعطيتم من زيادة خالية عن العوض ليربو في أموال الناس أي : ليزيد ويزكوا في أموالهم فلا يربو عند الله أي : لا يبارك الله فيه .
قال الربا في هذا الموضع الهدية يهديها الرجل لأخيه يطلب المكافأة ؛ لأن ذلك لا يربو عند الله لا يؤجر عليه صاحبه ولا إثم عليه ، وهكذا قال السدي : قتادة ، والضحاك .
قال الواحدي : وهذا قول جماعة المفسرين .
قال يعني : دفع الإنسان الشيء ليعوض أكثر منه وذلك ليس بحرام ، ولكنه لا ثواب فيه ، لأن الذي يهبه يستدعي به ما هو أكثر منه . الزجاج
وقال : معنى الآية أن ما خدم به الإنسان أحدا لينتفع به في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزي به الخدمة لا يربو عند الله . الشعبي
وقيل : هذا كان حراما على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على الخصوص لقوله - سبحانه - : ولا تمنن تستكثر [ المدثر : 6 ] ومعناها : أن تعطي فتأخذ أكثر منه عوضا عنه .
وقيل : إن هذه الآية نزلت في هبة الثواب .
قال ابن عطية : وما يجري مجراه مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه .
قال عكرمة : الربا ربوان : فربا حلال ، وربا حرام .
فأما الربا الحلال فهو الذي يهدي يلتمس ما هو أفضل منه : يعني كما في هذه الآية .
وقيل : إن هذا الذي في هذه الآية هو الربا المحرم ، فمعنى لا يربو عند الله على هذا القول لا يحكم به ، بل هو للمأخوذ منه .
قال المهلب : اختلف العلماء فيمن ، فقال وهب هبة يطلب بها الثواب مالك : ينظر فيه ، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له فله ذلك ، مثل هبة الفقير للغني ، وهبة الخادم للمخدوم ، وهبة الرجل لأميره ، وهو أحد قولي . الشافعي
وقال أبو حنيفة : لا يكون له ثواب إذا لم يشترط ، وهو قول الآخر . الشافعي
قرأ الجمهور " ليربو " بالتحتية على أن الفعل مسند إلى ضمير الربا .
وقرأ نافع ويعقوب بالفوقية مضمومة خطابا للجماعة بمعنى لتكونوا ذوي زيادات .
وقرأ أبو مالك " لتربوها " ومعنى الآية : أنه لا يزكو عند الله ولا يثيب عليه لأنه لا يقبل إلا ما أريد به وجهه خالصا له وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله أي : [ ص: 1136 ] وما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة ، وإنما تقصدون بها ما عند الله فأولئك هم المضعفون المضعف دون الأضعاف من الحسنات الذين يعطون بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف .
قال الفراء : هو نحو قولهم : مسمن ومعطش ومضعف إذا كانت له إبل سمان ، أو عطاش ، أو ضعيفة .
وقرأ أبي " المضعفون " بفتح العين اسم مفعول .
الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء عاد - سبحانه - إلى الاحتجاج على المشركين ، وأنه الخالق الرزاق المميت المحيي ، ثم قال على جهة الاستفهام هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ومعلوم أنهم يقولون ليس فيهم من يفعل شيئا من ذلك ، فتقوم عليهم الحجة ، ثم نزه - سبحانه - نفسه فقال : سبحانه وتعالى عما يشركون أي : نزهوه تنزيها ، وهو متعال عن أن يجوز عليه شيء من ذلك ، وقوله : من شركائكم خبر مقدم ومن للتبعيض ، والمبتدأ هو الموصول : أعني من يفعل ، ومن ذلكم متعلق بمحذوف لأنه حال من شيء المذكور بعده ، ومن في من شيء مزيدة للتوكيد ، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم كانوا يسمونهم آلهة ، ويجعلون لهم نصيبا من أموالهم .
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس بين - سبحانه - أن . الشرك والمعاصي سبب لظهور الفساد في العالم
واختلف في معنى ظهور الفساد المذكور ، فقيل : هو القحط وعدم النبات ، ونقصان الرزق ، وكثرة الخوف ونحو ذلك ، وقال مجاهد وعكرمة : فساد البر قتل ابن آدم أخاه : يعني قتل قابيل لهابيل ، وفي البحر الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا .
وليت شعري أي دليل دلهما على هذا التخصيص البعيد والتعيين الغريب ، فإن الآية نزلت على محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، والتعريف في الفساد يدل على الجنس ، فيعم كل فساد واقع في حيزي البر والبحر .
وقال : الفساد الشرك ، وهو أعظم الفساد . السدي
ويمكن أن يقال : إن الشرك وإن كان الفرد الكامل في أنواع المعاصي ، ولكن لا دليل على أنه المراد بخصوصه .
وقيل : الفساد كساد الأسعار وقلة المعاش ، وقيل : الفساد قطع السبل والظلم ، وقيل : غير ذلك مما هو تخصيص لا دليل عليه .
والظاهر من الآية ظهور ما يصح إطلاق اسم الفساد عليه سواء كان راجعا إلى أفعال بني آدم من معاصيهم واقترافهم السيئات وتقاطعهم وتظالمهم وتقاتلهم ، أو راجعا إلى ما هو من جهة الله - سبحانه - بسبب ذنوبهم كالقحط وكثرة الخوف والموتان ونقصان الزرائع ونقصان الثمار .
والبر والبحر هما المعروفان المشهوران ، وقيل : البر الفيافي ، والبحر القرى التي على ماء قاله عكرمة ، والعرب تسمي الأمصار البحار .
قال مجاهد : البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر ، والبحر ما كان على شط نهر . والأول أولى .
ويكون معنى البر مدن البر ، ومعنى البحر مدن البحر ، وما يتصل بالمدن من مزارعها ومراعيها ، والباء في بما كسبت للسببية ، وما إما موصولة أو مصدرية ليذيقهم بعض الذي عملوا اللام متعلقة بظهر ، وهي لام العلة أي : ليذيقهم عقاب بعض عملهم أو جزاء عملهم لعلهم يرجعون عما هم فيه من المعاصي ويتوبون إلى الله .
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل لما بين - سبحانه - ظهور الفساد بما كسبت أيدي المشركين والعصاة بين لهم ضلال أمثالهم من أهل الزمن الأول ، وأمرهم بأن يسيروا لينظروا آثارهم ويشاهدوا كيف كانت عاقبتهم ، فإن منازلهم خاوية وأراضيهم مقفرة موحشة كعاد وثمود ونحوهم من طوائف الكفار ، وجملة كان أكثرهم مشركين مستأنفة لبيان الحالة التي كانوا عليها ، وإيضاح السبب الذي صارت عاقبتهم به إلى ما صارت إليه .
فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له هذا خطاب لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأمته أسوته فيه ، كأن المعنى إذا قد ظهر الفساد بالسبب المتقدم فأقم وجهك يا محمد إلخ .
قال : اجعل جهتك اتباع الدين القيم ، وهو الإسلام المستقيم الزجاج من قبل أن يأتي يوم يعني يوم القيامة لا مرد له لا يقدر أحد على رده ، والمرد مصدر رد ، وقيل : المعنى : أوضح الحق وبالغ في الأعذار ، و من الله يتعلق بـ يأتي ، أو بمحذوف يدل عليه المصدر أي : لا يرده من الله أحد ، وقيل : يجوز أن يكون المعنى لا يرده الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه ، وفيه من الضعف وسوء الأدب مع الله ما لا يخفى يومئذ يصدعون أصله يتصدعون ، والتصدع التفرق ، يقال : تصدع القوم إذا تفرقوا ، ومنه قول الشاعر :
وكنا كندماني جذيمة برهة من الدهر حتى قيل : لن يتصدعا
والمراد بتفرقهم هاهنا أن أهل الجنة يصيرون إلى الجنة ، وأهل النار يصيرون إلى النار .
من كفر فعليه كفره أي : جزاء كفره ، وهو النار ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون أي : يوطئون لأنفسهم منازل في الجنة بالعمل الصالح ، والمهاد الفراش ، وقد مهدت الفراش مهدا : إذا بسطته ووطأته ، فجعل الأعمال الصالحة التي هي سبب لدخول الجنة كبناء المنازل في الجنة وفرشها .
وقيل : المعنى : فعلى أنفسهم يشفقون ، من قولهم في المشفق : أم فرشت فأنامت ، وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص .
وقال مجاهد فلأنفسهم يمهدون في القبر .
واللام في ليجزي الذين آمنوا متعلقة بيصدعون ، أو يمهدون أي : يتفرقون ليجزي الله المؤمنين بما يستحقونه من فضله أو يمهدون لأنفسهم بالأعمال الصالحة ليجزيهم ، وقيل : يتعلق بمحذوف .
قال ابن عطية : تقديره ذلك ليجزي ، وتكون الإشارة إلى ما تقدم من قوله : من عمل ومن كفر .
وجعل أبو حيان قسيم قوله : الذين آمنوا وعملوا الصالحات محذوفا لدلالة قوله : إنه لا يحب الكافرين عليه ، لأنه كناية عن بغضه لهم الموجب لغضبه - سبحانه - ، [ ص: 1137 ] وغضبه يستتبع عقوبته .
ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات أي : لأنها تتقدمه كما في قوله - سبحانه - : ومن دلالات بديع قدرته إرسال الرياح مبشرات بالمطر بشرا بين يدي رحمته [ الأعراف : 57 ] قرأ الجمهور " الرياح " وقرأ " الريح " بالإفراد على قصد الجنس لأجل قوله الأعمش مبشرات واللام في قوله : وليذيقكم من رحمته متعلقة بيرسل أي : يرسل الرياح مبشرات ويرسلها ليذيقكم من رحمته : يعني الغيث والخصب ، وقيل : هو متعلق بمحذوف أي : وليذيقكم أرسلها ، وقيل : الواو مزيدة على رأي من يجوز ذلك ، فتتعلق اللام بيرسل ولتجري الفلك بأمره معطوف على ليذيقكم من رحمته أي : يرسل الرياح ؛ لتجري الفلك في البحر عند هبوبها ، ولما أسند الجري إلى الفلك عقبه بقوله بأمره ولتبتغوا من فضله أي : تبتغوا الرزق بالتجارة التي تحملها السفن ولعلكم تشكرون هذه النعم فتفردون الله بالعبادة وتستكثرون من الطاعة .
وقد أخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس وما آتيتم من ربا الآية قال : الربا ربوان : ربا لا بأس به وربا لا يصلح .
فأما الربا الذي لا بأس به فهدية الرجل إلى الرجل يريد فضلها وأضعافها .
وأخرج البيهقي عنه قال : هذا هو الربا الحلال أن يهدي يريد أكثر منه وليس له أجر ولا وزر ، ونهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خاصة فقال : ولا تمنن تستكثر [ المدثر : 6 ] .
وأخرج ، عبد الرزاق ، ، وابن جرير ، عنه أيضا وابن أبي حاتم وما آتيتم من زكاة قال : هي الصدقة .
وأخرج عنه أيضا في قوله : ابن أبي حاتم ظهر الفساد في البر والبحر قال : البر البرية التي ليس عندها نهر ، والبحر ما كان من المدائن والقرى على شط نهر .
وأخرج ابن المنذر ، ، عنه أيضا في الآية قال : نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا . وابن أبي حاتم
وأخرج ابن المنذر عنه أيضا لعلهم يرجعون قال : من الذنوب .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، عنه أيضا وابن أبي حاتم يصدعون قال : يتفرقون .