ثم ذكر - سبحانه - وتعالى - نوعا آخر مما امتن به على عباده من النعم فقال : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون أي : دلالة وعلامة ، وقيل : معنى " آية " هنا العبرة وقيل : النعمة ، وقيل : النذارة .
وقد اختلف في معنى أنا حملنا ذريتهم وإلى من يرجع الضمير ، لأن الضمير الأول وهو قوله : وآية لهم لأهل مكة ، أو لكفار العرب ، أو للكفار على الإطلاق الكائنين في عصر محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فقيل : الضمير يرجع إلى القرون الماضية ، والمعنى : أن الله حمل ذرية القرون الماضية في الفلك المشحون ، فالضميران مختلفان .
وهذا حكاه النحاس عن . علي بن سليمان الأخفش
وقيل : الضميران لكفار مكة ونحوهم . والمعنى : أن الله حمل ذرياتهم من أولادهم وضعفائهم على الفلك ، فامتن الله عليهم بذلك أي : إنهم يحملونهم معهم في السفن إذا سافروا ، أو يبعثون أولادهم للتجارة لهم فيها .
وقيل : الذرية الآباء والأجداد ، والفلك هو سفينة نوح أي : إن الله حمل آباء هؤلاء ، وأجدادهم في سفينة نوح .
قال الواحدي : والذرية تقع على الآباء كما تقع على الأولاد .
قال أبو عثمان : وسمي الآباء ذرية ، لأن منهم ذرء الأبناء ، وقيل : الذرية النطف الكائنة في بطون النساء ، وشبه البطون بالفلك المشحون ، والراجح القول الثاني ثم [ ص: 1226 ] الأول ثم الثالث ، وأما الرابع ففي غاية البعد والنكارة .
وقد تقدم الكلام في الذرية واشتقاقها في سورة البقرة مستوفى ، والمشحون المملوء الموقر ، والفلك يطلق على الواحد والجمع كما تقدم في يونس ، وارتفاع ( آية ) على أنها خبر مقدم ، والمبتدأ أنا حملنا أو العكس على ما قدمنا .
وقيل : إن الضمير في قوله : وآية لهم يرجع إلى العباد المذكورين في قوله : ياحسرة على العباد [ يس : 30 ] لأنه قال بعد ذلك وآية لهم الأرض الميتة [ يس : 33 ] وقال : وآية لهم الليل [ يس : 37 ] .
ثم قال : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم فكأنه قال : وآية للعباد أنا حملنا ذريات العباد ، ولا يلزم أن يكون المراد بأحد الضميرين البعض منهم ، وبالضمير الآخر البعض الآخر ، وهذا قول حسن .
وخلقنا لهم من مثله ما يركبون أي : وخلقنا لهم مما يماثل الفلك ما يركبونه على أن ( ما ) هي الموصولة .
قال مجاهد ، وقتادة وجماعة من أهل التفسير : وهي الإبل خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر ، والعرب تسمي الإبل سفائن البر ، وقيل : المعنى : وخلقنا لهم سفنا أمثال تلك السفن يركبونها ، قاله الحسن ، والضحاك ، وأبو مالك .
قال النحاس : وهذا أصح ; لأنه متصل الإسناد عن ، وقيل : هي السفن المتخذة بعد سفينة ابن عباس نوح .
وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون هذا من تمام الآية التي امتن الله بها عليهم ، ووجه الامتنان أنه لم يغرقهم في لجج البحار مع قدرته على ذلك ، والضمير يرجع إما إلى أصحاب الذرية ، أو إلى الذرية ، أو إلى الجميع على اختلاف الأقوال ، والصريخ بمعنى المصرخ ، والمصرخ هو المغيث أي : فلا مغيث لهم يغيثهم إن شئنا إغراقهم ، وقيل : هو المنعة .
ومعنى ينقذون : يخلصون ، يقال : أنقذه واستنقذه ، إذا خلصه من مكروه .
إلا رحمة منا استثناء مفرغ من أعم العلل أي : لا صريخ لهم ، ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة منا ، كذا قال ، الكسائي ، وغيرهما ، وقيل : هو استثناء منقطع أي : لكن لرحمة منا . والزجاج
وقيل : هو منصوب على المصدرية بفعل مقدر وانتصاب متاعا على العطف على ( رحمة ) أي : نمتعهم بالحياة الدنيا إلى حين وهو الموت ، قاله قتادة . وقال : إلى القيامة . يحيى بن سلام
وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم أي : ما بين أيديكم من الآفات والنوازل فإنها محيطة بكم ، وما خلفكم منها .
قال قتادة معنى اتقوا ما بين أيديكم أي : من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم وما خلفكم في الآخرة .
وقال سعيد بن جبير ومجاهد ما بين أيديكم ما مضى من الذنوب وما خلفكم ما بقي منها .
وقيل : ما بين أيديكم الدنيا وما خلفكم الآخرة ، قاله سفيان .
وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن . ابن عباس
وقيل : ما بين أيديكم ما ظهر لكم وما خلفكم ما خفي عنكم ، وجواب ( إذا ) محذوف ، والتقدير : إذا قيل : لهم ذلك أعرضوا كما يدل عليه إلا كانوا عنها معرضين . لعلكم ترحمون أي : رجاء أن ترحموا ، أو كي ترحموا ، أو راجين أن ترحموا .
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ( ما ) : هي النافية ، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد ، و ( من ) الأولى مزيدة للتوكيد ، والثانية للتبعيض : والمعنى : ما تأتيهم من آية دالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وعلى صحة ما دعا إليه من التوحيد في حال من الأحوال إلا كانوا عنها معرضين .
وظاهره يشمل الآيات التنزيلية ، والآيات التكوينية ، وجملة إلا كانوا عنها معرضين في محل نصب على الحال كما مر تقريره في غير موضع .
والمراد بالإعراض عدم الالتفات إليها ، وترك النظر الصحيح فيها ، وهذه الآية متعلقة بقوله : ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون [ يس : 30 ] أي : إذا جاءتهم الرسل كذبوا ، وإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها .
وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله أي : تصدقوا على الفقراء مما أعطاكم الله ، وأنعم به عليكم من الأموال ، قال الحسن : يعني . اليهود أمروا بإطعام الفقراء
وقال مقاتل : إن المؤمنين قالوا لكفار قريش : أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم من الحرث والأنعام كما في قوله - سبحانه - : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا [ الأنعام : 136 ] فكان جوابهم ما حكاه الله عنهم بقوله : قال الذين كفروا للذين آمنوا استهزاء بهم ، وتهكما بقولهم أنطعم من لو يشاء الله أطعمه أي : من لو يشاء الله رزقه ، وقد كانوا سمعوا المسلمين يقولون : إن الرزاق هو الله ، وأنه يغني من يشاء ، ويفقر من يشاء ، فكأنهم حاولوا بهذا القول الإلزام للمسلمين وقالوا : نحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله ، وهذا غلط منهم ومكابرة ومجادلة بالباطل ، فإن الله - سبحانه - أغنى بعض خلقه وأفقر بعضا ، وأمر الغني أن يطعم الفقير وابتلاه به فيما فرض له من ماله من الصدقة .
وقولهم : من لو يشاء الله أطعمه هو وإن كان كلاما صحيحا في نفسه ، ولكنهم لما قصدوا به الإنكار لقدرة الله ، أو إنكار كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلا . جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله
وقوله : إن أنتم إلا في ضلال مبين من تمام كلام الكفار .
والمعنى : إنكم أيها المسلمون في سؤال المال وأمرنا بإطعام الفقراء لفي ضلال في غاية الوضوح والظهور .
وقيل : هو من كلام الله - سبحانه - جوابا على هذه المقالة التي قالها الكفار .
وقال القشيري ، والماوردي : إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة .
وقد كان في كفار قريش وغيرهم من سائر العرب قوم يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع ، فقالوا هذه المقالة استهزاء بالمسلمين ومناقضة لهم .
وحكى نحو هذا القرطبي عن . ابن عباس
ويقولون متى هذا الوعد الذي تعدونا به من العذاب والقيامة ، والمصير إلى الجنة أو النار . إن كنتم صادقين فيما تقولونه وتعدونا به . قالوا ذلك استهزاء منهم وسخرية بالمؤمنين . ومقصودهم إنكار ذلك بالمرة ، ونفي تحققه وجحد وقوعه .
فأجاب الله - سبحانه - عنهم بقوله : [ ص: 1227 ] ما ينظرون إلا صيحة واحدة أي : ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ، وهي نفخة إسرافيل في الصور تأخذهم وهم يخصمون أي : يختصمون في ذات بينهم في البيع والشراء ونحوهما من أمور الدنيا ، وهذه هي النفخة الأولى ، وهي نفخة الصعق .
وقد اختلف القراء في يخصمون ، فقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خصم يخصم ، والمعنى : يخصم بعضهم بعضا ، فالمفعول محذوف .
وقرأ أبو عمرو ، وقالون بإخفاء فتحة الخاء وتشديد الصاد ، وقرأ نافع وابن كثير وهشام كذلك إلا أنهم أخلصوا فتحة الخاء ، وقرأ الباقون بكسر الخاء وتشديد الصاد .
والأصل في القراءات الثلاث " يختصمون " فأدغمت التاء في الصاد ، فنافع وابن كثير وهشام نقلوا فتحة التاء إلى الساكن قبلها نقلا كاملا ، وأبو عمرو ، وقالون اختلسا حركتها تنبيها على أن الخاء أصلها السكون ، والباقون حذفوا حركتها ، فالتقى ساكنان فكسروا أولهما .
وروي عن أبي عمرو وقالون أنهما قرأا بتسكين الخاء وتشديد الصاد وهي قراءة مشكلة لاجتماع ساكنين فيها .
وقرأ أبي " يختصمون " على ما هو الأصل .
فلا يستطيعون توصية أي : لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بماله وما عليه ، أو لا يستطيع أن يوصيه بالتوبة والإقلاع عن المعاصي ، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم ولا إلى أهلهم يرجعون أي : إلى منازلهم التي ماتوا خارجين عنها ، وقيل : المعنى : لا يرجعون إلى أهلهم قولا ، وهذا إخبار عما ينزل بهم عند النفخة الأولى .
ثم أخبر - سبحانه - عما ينزل بهم عند النفخة الثانية فقال : ونفخ في الصور وهي النفخة التي يبعثون بها من قبورهم ، ولهذا قال : فإذا هم من الأجداث أي : القبور إلى ربهم ينسلون أي : يسرعون ، وبين النفختين أربعون سنة .
وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي حيث قال ( ونفخ ) تنبيها على تحقق وقوعه كما ذكره أهل البيان ، وجعلوا هذه الآية مثالا له ، و ( الصور ) بإسكان الواو : هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل كما وردت بذلك السنة ، وإطلاق هذا الاسم على القرن معروف في لغة العرب ، ومنه قول الشاعر :
نحن نطحناهم غداة الغورين نطحا شديدا لا كنطح الصورين
أي : القرنين .
وقد مضى هذا في سورة الأنعام . وقال قتادة : الصور جمع صورة أي : نفخ في الصور الأرواح ، والأجداث جمع جدث وهو القبر .
وقرئ " الأجداف " بالفاء وهي لغة ، واللغة الفصيحة بالثاء المثلثة والنسل والنسلان : الإسراع في السير ، يقال : نسل ينسل كضرب يضرب ، ويقال : ينسل بالضم ، ومنه قول امرئ القيس :
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وقول الآخر :
عسلان الذئب أمسى قاربا برد الليل عليه فنسل
و قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا أي : قالوا عند بعثهم من القبور بالنفخة : يا ويلنا ، نادوا ويلهم ، كأنهم قالوا له : احضر ، فهذا أوان حضورك ، وهؤلاء القائلون هم الكفار .
قال : الوقف على ( ابن الأنباري يا ويلنا ) وقف حسن . ثم يبتدئ الكلام بقوله : من بعثنا من مرقدنا ظنوا لاختلاط عقولهم بما شاهدوا من الهول ، وما داخلهم من الفزع أنهم كانوا نياما .
قرأ الجمهور يا ويلنا وقرأ " يا ويلتنا " بزيادة التاء . ابن أبي ليلى
وقرأ الجمهور من بعثنا بفتح ميم من على الاستفهام . وقرأ ، ابن عباس والضحاك ، وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرف جر ، ورويت هذه القراءة عن . علي بن أبي طالب
وعلى هذه القراءة تكون " من " متعلقة بالويل ، وقرأ الجمهور من بعثنا .
وفي قراءة أبي " من أهبنا " من هب من نومه : إذا انتبه ، وأنشد ثعلب على هذه القراءة :
وعاذلة هبت بليل تلومني ولم يغتمرني قبل ذاك عذول
وقيل : إنهم يقولون ذلك إذا عاينوا جهنم .
وقال أبو صالح : إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور ، وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية ، وجملة هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون جواب عليهم من جهة الملائكة ، أو من جهة المؤمنين .
وقيل : هو من كلام الكفرة يجيب به بعضهم على بعض .
قال بالأول الفراء ، وبالثاني مجاهد .
وقال قتادة : هي من قول الله - سبحانه - ، و " ما " في قوله : ما وعد الرحمن موصولة ، وعائدها محذوف ، والمعنى : هذا الذي وعده الرحمن ، وصدق فيه المرسلون قد حق عليكم ، ونزل بكم ، ومفعولا الوعد والصدق محذوفان أي : وعدكموه الرحمن ، وصدقكموه المرسلون ، والأصل : وعدكم به ، وصدقكم فيه ، أو وعدناه الرحمن ، وصدقناه المرسلون ، على أن هذا من قول المؤمنين ، أو من قول الكفار .
إن كانت إلا صيحة واحدة أي : ما كانت تلك النفخة المذكورة إلا صيحة واحدة صاحها إسرافيل بنفخة في الصور فإذا هم جميع لدينا محضرون أي : فإذا هم مجموعون محضرون لدينا بسرعة للحساب والعقاب .
فاليوم لا تظلم نفس من النفوس شيئا مما تستحقه أي : لا ينقص من ثواب عملها شيئا من النقص ، ولا تظلم فيه بنوع من أنواع الظلم ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون أي : إلا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا ، أو إلا بما كنتم تعملونه أي : بسببه ، أو في مقابلته .
وقد أخرج ، عبد بن حميد ، عن وابن أبي حاتم أبي مالك في قوله : " أنا حملنا ذريتهم " الآية ، قال : في سفينة نوح حمل فيها من كل زوجين اثنين وخلقنا لهم من مثله ما يركبون قال : السفن التي في البحر والأنهار التي يركب الناس فيها .
وأخرج ، عبد بن حميد وابن المنذر ، عن أبي صالح نحوه .
وأخرج ، ابن جرير عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس وخلقنا لهم من مثله ما يركبون قال : هي السفن جعلت من بعد سفينة نوح .
وأخرج ، ابن جرير عنه في الآية قال : يعني الإبل خلقها الله كما رأيت ، فهي سفن البر يحملون عليها ويركبونها . وابن أبي حاتم
ومثله عن الحسن وعكرمة وعبد الله بن شداد ومجاهد .
[ ص: 1228 ] وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد وابن المنذر ، وابن مردويه عن في قوله : أبي هريرة فلا يستطيعون توصية الآية ، قال : تقوم الساعة والناس في أسواقهم يتبايعون ويذرعون الثياب ويحلبون اللقاح ، وفي حوائجهم فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون وأخرج ، عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن المنذر ، عن قال : إن الساعة تقوم والرجل يذرع الثوب والرجل يحلب الناقة ، ثم قرأ : الزبير بن العوام فلا يستطيعون توصية الآية .
وأخرج ، البخاري ومسلم وغيرهما عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : أبي هريرة ، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما ، فلا يتبايعانه ولا يطويانه .
وأخرج ، الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم في قوله : أبي بن كعب من بعثنا من مرقدنا قال : ينامون قبل البعث نومة .