قوله : قد نرى تقلب وجهك قال القرطبي في تفسيره : قال العلماء : هذه الآية مقدمة في النزول على قوله : سيقول السفهاء ، ومعنى : قد تكثير الرؤية ، كما قاله صاحب الكشاف ، ومعنى : تقلب وجهك تحول وجهك إلى السماء ، قاله قطرب .
قال : تقلب عينيك في النظر إلى السماء ، والمعنى متقارب . الزجاج
وقوله : فلنولينك هو إما من الولاية ، أي فلنعطينك ذلك .
أو من التولي ، أي فلنجعلنك متوليا إلى جهتها ، وهذا أولى لقوله : فول وجهك شطر المسجد الحرام .
والمراد بالشطر هنا : الناحية والجهة ، وهو منتصب على الظرفية ومنه قول الشاعر :
أقول لأم زنباع أقيمي صدور العيس شطر بني تميم
ومنه أيضا قول الآخر :ألا من مبلغ عمرا رسولا وما تغني الرسالة شطر عمرو
إني امرؤ من خير عبس منصبا شطري وأحمي سائري بالمنصل
ويرد بمعنى البعض مطلقا .
ولا خلاف أن المراد بشطر المسجد هنا الكعبة .
وقد حكى القرطبي الإجماع على أن الكعبة فرض على المعاين ، وعلى أن غير المعاين يستقبل الناحية ، ويستدل على ذلك بما يمكنه الاستدلال به ، والضمير في قوله : استقبال عين أنه الحق راجع إلى ما يدل عليه الكلام من التحول إلى جهة الكعبة ، وعلم أهل الكتاب بذلك إما لكونه قد بلغهم عن أنبيائهم أو وجدوا في كتب الله المنزلة عليهم أن هذا النبي يستقبل الكعبة ، أو لكونهم قد علموا من كتبهم أو أنبيائهم أن النسخ سيكون في هذه الشريعة فيكون ذلك موجبا عليهم الدخول في الإسلام ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : وما الله بغافل عما يعملون قد تقدم معناه .
وقرأ ابن عامر وحمزة " تعملون " بالمثناة الفوقية على مخاطبة والكسائي أهل الكتاب أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقرأ الباقون بالياء التحتية .
وقوله : ولئن أتيت هذه اللام هي موطئة القسم ، والتقدير : والله لئن أتيت .
وقوله : ما تبعوا جواب القسم المقدر ، قال الأخفش : أجيب " لئن " بجواب " لو " لأن المعنى : ولو أتيت ، ومثله قوله تعالى : والفراء ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا أي ولو أرسلنا ، وإنما قالا هكذا لأن " لئن " هي ضد " لو " ، وذلك أن الأولى تطلب في جوابها المضي والوقوع و " لئن " تطلب في جوابها الاستقبال .
وقال : إن معنى " لئن " يخالف معنى " لو " فلا تدخل إحداهما على الأخرى ، فالمعنى : سيبويه ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك .
قال : ومعنى : سيبويه ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا ليظللن . انتهى .
وفي هذه الآية مبالغة عظيمة وهي متضمنة [ ص: 101 ] للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وترويح خاطره لأن هؤلاء لا تؤثر فيهم كل آية ، ولا يرجعون إلى الحق وإن جاءهم بكل برهان فضلا عن برهان واحد وذلك أنهم لم يتركوا اتباع الحق لدليل عندهم أو لشبهة طرأت عليهم ، حتى يوازنوا بين ما عندهم وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقلعوا عن غوايتهم عند وضوح الحق ، بل كان تركهم للحق تمردا وعنادا مع علمهم بأنهم ليسوا على شيء ، ومن كان هكذا فهو لا ينتفع بالبرهان أبدا .
وقوله : وما أنت بتابع قبلتهم هذا الإخبار ممكن أن يكون بمعنى النهي من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم ، أي لا تتبع يا محمد قبلتهم ويمكن أن يكون على ظاهره دفعا لأطماع أهل الكتاب ، وقطعا لما يرجونه من رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة التي كان عليها .
وقوله : وما بعضهم بتابع قبلة بعض فيه إخبار بأن اليهود والنصارى مع حرصهم على مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما عندهم مختلفون في دينهم حتى في هذا الحكم الخاص الذي قصه الله سبحانه على رسوله ، فإن بعضهم لا يتابع الآخر في استقبال قبلته .
قال في الكشاف : وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس ، والنصارى تستقبل مطلع الشمس . انتهى .
وقوله : ولئن اتبعت أهواءهم إلى آخر الآية ، فيه من التهديد العظيم والزجر البليغ ما تقشعر له الجلود وترجف منه الأفئدة ، وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغراء والملة الشريفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد ولد آدم يوجب عليه أن يكون وحاشاه من الظالمين ، فما ظنك بغيره من أمته ، وقد صان الله هذه الفرقة الإسلامية بعد ثبوت قدم الإسلام وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب ، ولم تبق إلا دسيسة شيطانية ووسيلة طاغوتية ، وهي ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة ، لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم أو الجاه لديهم إن كان لهم في الناس دولة ، أو كانوا من ذوي الصولة ، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل ، بل اتباع أهوية المبتدعة تشبه اتباع أهوية أهل الكتاب ، كما يشبه الماء الماء ، والبيضة البيضة ، والتمرة التمرة ، وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشد على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل ، فإن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام ، ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين ويتبعون أحسنه ، وهم على العكس من ذلك والضد لما هنالك ، فلا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة ويدفعونه من شنعة إلى شنعة ، حتى يسلخوه من الدين ويخرجوه منه ، وهو يظن أنه منه في الصميم ، وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم ، هذا إن كان في عداد المقصرين ، ومن جملة الجاهلين ، وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق والباطل كان في اتباعه لأهويتهم ممن أضله الله على علم وختم على قلبه ، وصار نقمة على عباد الله ومصيبة صبها الله على المقصرين ، لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى الحق ، ولا يتبع إلا الصواب ، فيضلون بضلاله ، فيكون عليه إثمه وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة ، نسأل الله اللطف والسلامة والهداية .
وقوله : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه قيل : الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أي يعرفون نبوته .
روي ذلك عن مجاهد وقتادة وطائفة من أهل العلم ، وقيل : يعرفون تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة بالطريق التي قدمنا ذكرها ، وبه قال جماعة من المفسرين ، ورجح صاحب الكشاف الأول .
وعندي أن الراجح الآخر كما يدل عليه السياق الذي سيقت له هذه الآيات .
وقوله : ليكتمون الحق هو عند أهل القول الأول : نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وعند أهل القول الثاني استقبال الكعبة .
وقوله : الحق من ربك يحتمل أن يكون المراد به الحق الأول ، ويحتمل أن يراد به جنس الحق على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره قوله : من ربك أي الحق هو الذي من ربك لا من غيره .
وقرأ " الحق " بالنصب على أنه بدل من الأول أو منصوب على الإغراء أي الزم الحق . علي بن أبي طالب
وقوله : فلا تكونن من الممترين خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والامتراء : الشك ، نهاه الله سبحانه عن الشك في كونه الحق من ربه ، أو في كون كتمانهم الحق مع علمهم ، وعلى الأول هو تعريض للأمة ، أي لا يكن أحد من أمته من الممترين ، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في كون ذلك هو الحق من الله سبحانه .
وقد أخرج عن ابن ماجه البراء قال : بيت المقدس ثمانية عشر شهرا ، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخوله إلى المدينة بشهرين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى بيت المقدس أكثر تقليب وجهه في السماء ، وعلم الله من قلب نبيه أنه يهوى الكعبة فصعد جبريل فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره وهو يصعد بين السماء والأرض ينظر ما يأتيه به ، فأنزل الله قد نرى تقلب وجهك في السماء الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا جبريل كيف حالنا في صلاتنا إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله وما كان الله ليضيع إيمانكم . صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو
وأخرجه من حديث الطبراني معاذ مختصرا لكنه قال : سبعة عشر شهرا .
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في الكبير والطبراني والحاكم وصححه عن في قوله تعالى : عبد الله بن عمرو فلنولينك قبلة ترضاها قال : قبلة إبراهيم نحو الميزاب .
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن وابن أبي حاتم البراء في قوله : فول وجهك شطر المسجد الحرام قال : قبله .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن علي مثله .
وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير والبيهقي عن قال : ابن عباس شطره نحوه .
وأخرج البيهقي عن مجاهد مثله .
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن وابن جرير أبي العالية قال : شطر المسجد الحرام تلقاءه .
وأخرج عن ابن جرير قال : البيت كله قبلة وقبلة البيت الباب . ابن عباس
وأخرج البيهقي في سننه عنه مرفوعا قال : [ ص: 102 ] وأخرج البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي عن ابن جرير في قوله : السدي وإن الذين أوتوا الكتاب قال : أنزل ذلك في اليهود .
وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس ليعلمون أنه الحق قال : يعني بذلك القبلة .
وأخرج أبو داود في ناسخه عن وابن جرير أبي العالية نحوه .
وأخرج عن ابن جرير في قوله : السدي وما بعضهم بتابع قبلة بعض يقول : ما اليهود بتابعي قبلة النصارى ، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود .
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن وابن أبي حاتم قتادة في قوله : الذين آتيناهم الكتاب قال : اليهود والنصارى يعرفونه قال : يعرفون رسول الله في كتابهم كما يعرفون أبناءهم .
وأخرج عبد بن حميد عنه في قوله : وابن جرير يعرفونه أي يعرفون أن البيت الحرام هو القبلة .
وأخرج عن ابن جرير الربيع مثله .
وأخرج عبد بن حميد عن وابن جرير مجاهد في قوله : وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون قال : يكتمون محمدا وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .
وأخرج أبو داود في ناسخه عن وابن جرير أبي العالية قال : قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : الحق من ربك فلا تكونن من الممترين يقول : لا تكونن في شك يا محمد أن الكعبة هي قبلتك ، وكانت قبلة الأنبياء من قبلك .