لما أعلم الله - سبحانه - نبيه بأنه منتقم له من عدوه وذكر اتفاق الأنبياء على التوحيد أتبعه بذكر قصة موسى وفرعون وبيان ما نزل بفرعون وقومه من النقمة فقال : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وهي التسع تقدم بيانها إلى فرعون وملئه الملأ : الأشراف فقال إني رسول رب العالمين أرسلني إليكم .
فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون استهزاء وسخرية ، وجواب لما هو إذا الفجائية ؛ لأن التقدير : فاجئوا وقت ضحكهم .
وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها أي : كل واحدة من آيات موسى أكبر مما قبلها ، وأعظم قدرا مع كون التي قبلها عظيمة في نفسها ، وقيل : المعنى : إن الأولى تقتضي علما والثانية تقتضي علما ، فإذا ضمت الثانية إلى الأولى ازداد الوضوح ، ومعنى الأخوة بين الآيات : أنها متشاكلة متناسبة في دلالتها على صحة نبوة موسى كما يقال : هذه صاحبة هذه : أي : هما قرينتان في المعنى ، وجملة إلا هي أكبر من أختها في محل جر صفة لآية ، وقيل : المعنى : أن كل واحدة من الآيات إذا انفردت ظن الظان أنها أكبر من سائر الآيات ، ومثل هذا قول القائل :
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون أي : بسبب تكذيبهم بتلك الآيات ، والعذاب هو المذكور في قوله : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات [ الأعراف : 130 ] الآية ، وبين - سبحانه - أن العلة في أخذه لهم بالعذاب هو رجاء رجوعهم .
ولما عاينوا ما جاءهم به من الآيات البينات والدلالات الواضحات ظنوا أن ذلك من قبيل السحر وقالوا ياأيها الساحر وكانوا يسمون العلماء سحرة ويوقرون السحرة ويعظمونهم ولم يكن السحر صفة ذم عندهم .
قال : خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر الزجاج ادع لنا ربك بما عهد عندك أي : بما أخبرتنا من عهده إليك إنا إذا آمنا كشف عنا العذاب ، وقيل : المراد بالعهد النبوة ، وقيل : استجابة الدعوة على العموم إننا لمهتدون أي : إذا كشف عنا العذاب الذي نزل بنا فنحن مهتدون فيما يستقبل من الزمان ، ومؤمنون بما جئت به .
فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون في الكلام حذف ، والتقدير : فدعا موسى ربه فكشف عنهم العذاب فلما كشف عنهم العذاب فاجئوا وقت نكثهم للعهد الذي جعلوه على أنفسهم من الاهتداء ، والنكث : النقض .
ونادى فرعون في قومه قيل : لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إلى موسى ، فجمعهم ونادى بصوته فيما بينهم أو أمر مناديا ينادي بقوله : ياقوم أليس لي ملك مصر لا ينازعني فيه أحد ولا يخالفني مخالف وهذه الأنهار تجري من تحتي أي : من تحت قصري ، والمراد أنها النيل . وقال قتادة : المعنى تجري بين يدي . وقال الحسن تجري بأمري أي : تجري تحت أمري . وقال الضحاك : أراد بالأنهار القواد والرؤساء والجبابرة وأنهم يسيرون تحت لوائه . وقيل : أراد بالأنهار الأموال ، والأول أولى .
والواو في " وهذه " عاطفة على ملك مصر ، و " تجري " في محل نصب على الحال أو هي واو الحال ، واسم الإشارة مبتدأ ، والأنهار صفة له ، وتجري خبره ، والجملة في محل نصب أفلا تبصرون ذلك وتستدلون به على قوة ملكي وعظيم قدري وضعف موسى عن مقاومتي .
أم أنا خير من هذا الذي هو مهين أم هي المنقطعة المقدرة ببل التي للاضطراب دون الهمزة التي للإنكار أي : بل أنا خير . قال أبو عبيدة : أم بمعنى بل ، والمعنى : قال فرعون لقومه : بل أنا خير .
وقال الفراء : إن شئت جعلتها من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله ، وقيل : هي زائدة ، وحكى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون أم زائدة ، والمعنى : أنا خير من هذا .
وقال الأخفش : في الكلام حذف ، والمعنى : أفلا تبصرون أم تبصرون ؟ ثم ابتدأ فقال : أنا خير ، وروي عن الخليل نحو قول وسيبويه الأخفش ، ويؤيد هذا أن عيسى الثقفي وقفا على " أم " على تقدير أم تبصرون ، فحذف لدلالة الأول عليه ، وعلى هذا فتكون أم متصلة لا منقطعة والأول أولى . ومثله قول الشاعر الذي أنشده ويعقوب الحضرمي الفراء :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أم أنت في العين أملح
أي : بل أنت .
وحكى الفراء أن بعض القراء قرأ " أما أنا خير " أي : ألست خيرا من هذا الذي هو مهين أي : ضعيف حقير ممتهن في نفسه لا عز له ولا يكاد يبين الكلام لما في لسانه من العقدة ، وقد تقدم بيانه في سورة طه .
فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أي : فهلا حلي بأساورة الذهب إن كان عظيما ، وكان الرجل فيهم إذا سودوه سوروه بسوار من ذهب ، وطوقوه بطوق من ذهب .
قرأ الجمهور " أساورة " جمع أسورة جمع سوار . وقال : واحد الأساورة والأساور والأساوير [ ص: 1343 ] أسوار ، وهي لغة في سوار . أبو عمرو بن العلاء
وقرأ حفص " أسورة " جمع سوار ، وقرأ أبي : " أساور " ، " أساوير " . وابن مسعود
قال مجاهد : كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوارين وطوقوه بطوق ذهب علامة لسيادته أو جاء معه الملائكة مقترنين معطوف على ألقي ، والمعنى : هلا جاء معه الملائكة متتابعين متقارنين إن كان صادقا يعينونه على أمره ويشهدون له بالنبوة ، فأوهم اللعين قومه أن الرسل لا بد أن يكونوا على هيئة الجبابرة ومحفوفين بالملائكة .
فاستخف قومه فأطاعوه أي : حملهم على خفة الجهل والسفه بقوله وكيده وغروره ، فأطاعوه فيما أمرهم به ، وقبلوا وكذبوا موسى إنهم كانوا قوما فاسقين أي : خارجين عن طاعة الله .
قال : المعنى فاستجهل قومه فأطاعوه بخفة أحلامهم وقلة عقولهم ، يقال : استخفه الفرح أي : أزعجه ، واستخفه أي : حمله ، ومنه ابن الأعرابي ولا يستخفنك الذين لا يوقنون [ الروم : 60 ] وقيل : استخف قومه أي : وجدهم خفاف العقول ، وقد استخف بقومه وقهرهم حتى اتبعوه .
فلما آسفونا انتقمنا منهم قال المفسرون : أغضبونا ، والأسف الغضب ، وقيل : أشد الغضب ، وقيل : السخط ، وقيل : المعنى : أغضبوا رسلنا .
ثم بين العذاب الذي وقع به الانتقام فقال : فأغرقناهم أجمعين في البحر .
فجعلناهم سلفا أي : قدوة لمن عمل بعملهم من الكفار في استحقاق العذاب .
قرأ الجمهور سلفا بفتح السين واللام جمع سالف كخدم وخادم ، ورصد وراصد ، وحرس وحارس ، يقال : سلف يسلف : إذا تقدم ومضى .
قال الفراء : جعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون ، وقرأ والزجاج حمزة : " سلفا " بضم السين واللام . قال والكسائي الفراء : هو جمع سليف ، نحو سرر وسرير . وقال أبو حاتم هو جمع سلف نحو خشب وخشب . وقرأ علي وابن مسعود وعلقمة وأبو وائل والنخعي وحميد بن قيس بضم السين وفتح اللام جمع سلفة وهي الفرقة المتقدمة نحو غرف وغرفة ، كذا قال النضر بن شميل ومثلا للآخرين أي : عبرة وموعظة لمن يأتي بعدهم ، أو قصة عجيبة تجري مجرى الأمثال .
وقد أخرج ابن المنذر عن في قوله : ابن عباس ولا يكاد يبين قال : كانت بموسى لثغة في لسانه .
وأخرج ، ابن جرير ، عنه وابن أبي حاتم فلما آسفونا قال : أسخطونا . وأخرجا عنه أيضا آسفونا قال : أغضبونا ، وفي قوله : سلفا قال : أهواء مختلفة .
وأخرج أحمد ، والطبراني والبيهقي في الشعب ، ، عن وابن أبي حاتم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : عقبة بن عامر فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين . إذا رأيت الله يعطي العبد ما شاء وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك استدراج منه له ، وقرأ
وأخرج ابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم قال : كنت عند طارق بن شهاب عبد الله فذكر عنده موت الفجأة فقال : تخفيف على المؤمن وحسرة على الكافر ، فلما آسفونا انتقمنا منهم .