قوله : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما أي : بين جنسي السماء والأرض لاعبين أي : لغير غرض صحيح . قال مقاتل : لم نخلقهما عابثين لغير شيء . وقال الكلبي : لاهين ، وقيل : غافلين .
قرأ الجمهور وما بينهما وقرأ ( وما بينهن ) لأن السماوات والأرض جمع ، وانتصاب لاعبين على الحال . عمرو بن عبيد
ما خلقناهما أي : وما بينهما إلا بالحق أي : إلا بالأمر الحق ، والاستثناء مفرغ [ ص: 1354 ] من أعم الأحوال .
وقال الكلبي : إلا للحق ، وكذا قال الحسن ، وقيل : إلا لإقامة الحق وإظهاره ولكن أكثرهم لا يعلمون أن الأمر كذلك وهم المشركون .
إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين أي : إن يوم القيامة الذي يفصل فيه الحق عن الباطل ميقاتهم أي : الوقت المجعول لتمييز المحسن من المسيئ ، والمحق من المبطل أجمعين ، لا يخرج عنهم أحد من ذلك .
وقد اتفق القراء على رفع ميقاتهم على أنه خبر إن ، واسمها يوم الفصل .
وأجاز ، الكسائي نصبه على أنه اسمها ، و ( يوم الفصل ) خبرها . والفراء
ثم وصف - سبحانه - ذلك اليوم فقال : يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ، ( يوم ) بدل من يوم الفصل ، أو منتصب بفعل مضمر يدل عليه الفصل أي : يفصل بينهم يوم لا يغني ، ولا يجوز أن يكون معمولا للفصل لأنه قد وقع الفصل بينهما بأجنبي ، والمعنى : أنه لا ينفع في ذلك اليوم قريب قريبا ، ولا يدفع عنه شيئا ، ويطلق المولى على الولي ، وهو القريب والناصر ولا هم ينصرون الضمير راجع إلى المولى باعتبار المعنى ؛ لأنه نكرة في سياق النفي وهي من صيغ العموم أي : ولا هم يمنعون من عذاب الله .
إلا من رحم الله قال : الاستثناء منقطع أي : لكن من رحم الله ، وكذا قال الكسائي الفراء .
وقيل : هو متصل ، والمعنى : لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين ، فإنهم يؤذن لهم في الشفاعة فيشفعون ، ويجوز أن يكون مرفوعا على البدل من ( مولى ) الأول ، أو من الضمير في ( ينصرون ) إنه هو العزيز الرحيم أي : الغالب الذي لا ينصر من أراد عذابه ، الرحيم لعباده المؤمنين .
ثم لما وصف اليوم ذكر بعده وعيد الكفار ، فقال : إن شجرة الزقوم طعام الأثيم شجرة الزقوم هي الشجرة التي خلقها الله في جهنم ، وسماها الشجرة الملعونة ، فإذا جاع أهل النار التجئوا إليها فأكلوا منها ، وقد مضى الكلام على شجرة الزقوم في سورة الصافات ، والأثيم الكثير الإثم .
قال في الصحاح : أثم الرجل بالكسر إثما ومأثما : إذا وقع في الإثم فهو آثم وأثيم وأثوم ، فمعنى طعام الأثيم : ذي الإثم .
كالمهل وهو دردي الزيت ، وعكر القطران .
وقيل : هو النحاس المذاب .
وقيل : كل ما يذوب في النار يغلي في البطون كغلي الحميم قرأ الجمهور ( تغلي ) بالفوقية على أن الفاعل ضمير يعود إلى الشجرة ، والجملة خبر ثان أو حال ، أو خبر لمبتدأ محذوف أي : تغلي غليا مثل غلي الحميم ، وهو الماء الشديد الحرارة .
وقرأ ابن كثير ، وحفص ، وابن محيصن ، عن يعقوب يغلي بالتحتية على أن الفاعل ضمير يعود إلى الطعام ، وهو في معنى الشجرة ، ولا يصح أن يكون الضمير عائدا إلى المهل لأنه مشبه به ، وإنما يغلي ما يشبه بالمهل . وورش ،
وقوله : كغلي الحميم صفة مصدر محذوف أي : غليا كغلي الحميم .
خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم أي : يقال : للملائكة الذين هم خزنة النار خذوه أي : الأثيم فاعتلوه ، العتل : القود بالعنف ، يقال : عتله يعتله ، إذا جره وذهب به إلى مكروه ، وقيل : العتل : أن يأخذ بتلابيب الرجل ومجامعه فيجره ، ومنه قول الشاعر يصف فرسا :
نقرعه قرعا ولسنا نعتله
ومنه قول يهجو الفرزدق جريرا :
حتى ترد إلى عطية تعتل
قرأ الجمهور فاعتلوه بكسر التاء . وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر بضمها ، وهما لغتان إلى سواء الجحيم أي : إلى وسطه ، كقوله : فرآه في سواء الجحيم [ الصافات : 55 ] .
ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم من هي التبعيضية أي : صبوا فوق رأسه بعض هذا النوع ، وإضافة العذاب إلى الحميم للبيان أي : عذاب هو الحميم ، وهو الماء الشديد الحرارة كما تقدم .
ذق إنك أنت العزيز الكريم أي : وقولوا له تهكما وتقريعا وتوبيخا : ذق العذاب إنك أنت العزيز الكريم .
وقيل : إن أبا جهل كان يزعم أنه أعز أهل الوادي وأكرمهم ، فيقولون له : ذق العذاب أيها المتعزز المتكرم في زعمك وفيما كنت تقوله .
قرأ الجمهور إنك بكسر الهمزة ، وقرأ وروي ذلك عن علي بفتحها أي : لأنك . الكسائي
قال الفراء أي : بهذا القول الذي قلته في الدنيا .
والإشارة بقوله : إن هذا إلى العذاب ما كنتم به تمترون أي : تشكون فيه حين كنتم في الدنيا ، والجمع باعتبار جنس الأثيم .
ثم ذكر - سبحانه - مستقر المتقين ، فقال إن المتقين في مقام أمين أي : الذين اتقوا الكفر والمعاصي .
قرأ الجمهور مقام بفتح الميم ، وقرأ نافع ، وابن عامر بضمها .
فعلى القراءة الأولى هو موضع القيام ، وعلى القراءة الثانية هو موضع الإقامة قاله ، وغيره . الكسائي
وقال الجوهري : قد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة ، وقد يكون بمعنى موضع القيام .
ثم وصف المقام بأنه أمين يأمن صاحبه من جميع المخاوف في جنات وعيون بدل من مقام أمين ، أو بيان له ، أو خبر ثان .
يلبسون من سندس وإستبرق خبر ثان ، أو ثالث ، أو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور ، والسندس ما رق من الديباج ، والإستبرق ما غلظ منه ، وقد تقدم بيانه في سورة الكهف ، وانتصاب متقابلين على الحال من فاعل يلبسون أي : متقابلين في مجالسهم ينظر بعضهم إلى بعض .
والكاف في قوله : كذلك إما نعت مصدر محذوف أي : نفعل بالمتقين فعلا كذلك .
أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي : الأمر وزوجناهم بحور عين أي : أكرمناهم بأن زوجناهم بحور عين ، والحور جمع حوراء : وهي البيضاء ، والعين جمع عيناء : وهي الواسعة العينين . كذلك
وقال مجاهد : إنما سميت الحوراء حوراء ؛ لأنه يحار الطرف في حسنها ، وقيل : هو من حور العين : وهو شدة بياض العين في شدة سوادها كذا قال أبو عبيدة .
وقال : ما أدري ما الحور العين . الأصمعي
قال أبو عمرو : الحور أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر ، قال : وليس في بني آدم حور ، [ ص: 1355 ] وإنما قيل : للنساء حور ؛ لأنهن شبهن بالظباء والبقر .
وقيل : والمراد بقوله : زوجناهم قرناهم وليس من عقد التزويج ؛ لأنه لا يقال : زوجته بامرأة .
وقال أبو عبيدة : وجعلناهم أزواجا لهن ، كما يزوج البعل بالبعل أي : جعلناهم اثنين اثنين ، وكذا قال الأخفش .
يدعون فيها بكل فاكهة آمنين أي : يأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه حال كونهم آمنين من التختم ، والأسقام ، والآلام .
قال قتادة : آمنين من الموت والوصب ، والشيطان ، وقيل : من انقطاع ما هم فيه من النعيم .
لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى أي : لا يموتون فيها أبدا إلا الموتة التي ذاقوها في الدنيا ، والاستثناء منقطع أي : لكن الموتة التي قد ذاقوها في الدنيا كذا قال ، الزجاج ، وغيرهما ، ومثل هذه الآية قوله : والفراء ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف [ النساء : 22 ] وقيل : إن " إلا " بمعنى " بعد " ، كقولك : ما كلمت رجلا اليوم إلا رجلا عندك أي : بعد رجل عندك ، وقيل : هي بمعنى سوى أي : سوى الموتة الأولى .
وقال ابن قتيبة : إنما استثنى الموتة الأولى وهي في الدنيا ؛ لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله وقدرته إلى أسباب من الجنة يلقون الروح ، والريحان ، ويرون منازلهم من الجنة ، وتفتح لهم أبوابها ، فإذا ماتوا في الدنيا فكأنهم ماتوا في الجنة لاتصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها ، فيكون الاستثناء على هذا متصلا .
واختار ابن جرير أن " إلا " بمعنى " بعد " ، واختار كونها بمعنى سوى ابن عطية ، ووقاهم عذاب الجحيم .
قرأ الجمهور وقاهم بالتخفيف ، وقرأ أبو حيوة بالتشديد على المبالغة .
فضلا من ربك أي : لأجل الفضل منه ، أو أعطاهم ذلك عطاء فضلا منه ذلك هو الفوز العظيم أي : ذلك الذي تقدم ذكره هو الفوز الذي لا فوز بعده المتناهي في العظم .
ثم لما بين - سبحانه - الدلائل ، وذكر الوعد والوعيد ، قال : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون أي : إنما أنزلنا القرآن بلغتك كي يفهمه قومك ، فيتذكروا ويعتبروا ويعملوا بما فيه ، أو سهلناه بلغتك عليك وعلى من يقرؤه لعلهم يتذكرون .
فارتقب إنهم مرتقبون أي : فانتظر ما وعدناك من النصر عليهم وإهلاكهم على يدك ، فإنهم منتظرون ما ينزل بك من موت أو غيره ، وقيل : انتظر أن يحكم الله بينك وبينهم ، فإنهم منتظرون بك نوائب الدهر ، والمعنى متقارب .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن في قوله : ابن عباس ذق إنك أنت العزيز الكريم يقول : لست بعزيز ولا كريم .
وأخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة قال : لقي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أبا جهل ، فقال : إن الله أمرني أن أقول لك أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى قال : فنزع يده من يده ، وقال : ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء ، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاء ، وأنا العزيز الكريم ، فقتله الله يوم بدر وأذله وعيره بكلمته ، وأنزل : ذق إنك أنت العزيز الكريم .
وأخرج ابن مردويه ، عن في قوله : ابن عباس إن شجرة الزقوم طعام الأثيم قال : المهل .
وأخرج عنه أيضا ذق إنك أنت العزيز الكريم قال : هو أبو جهل بن هشام .