إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم
قوله : إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله المراد بهؤلاء هم المنافقون ، وقيل : أهل الكتاب ، وقيل : هم المطعمون يوم بدر من المشركين .
ومعنى صدهم عن سبيل الله : منعهم للناس عن الإسلام واتباع الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - . ومعنى وشاقوا الرسول عادوه وخالفوه من بعد ما تبين لهم الهدى أي علموا أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - نبي من عند الله بما شاهدوا من المعجزات الواضحة والحجج القاطعة لن يضروا الله شيئا بتركهم الإيمان وإصرارهم على الكفر وما ضروا إلا أنفسهم وسيحبط أعمالهم أي يبطلها ، والمراد بهذه الأعمال ما صورته صورة أعمال الخير كإطعام الطعام ، وصلة الأرحام ، وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير ، وإن كانت باطلة من الأصل لأن الكفر مانع ، وقيل : المراد بالأعمال المكائد التي نصبوها لإبطال دين الله ، والغوائل التي كانوا يبغونها برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - .
ثم أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته ، وطاعة رسوله ، فقال : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فيما أمرتم به من الشرائع المذكورة في كتاب الله وسنة رسوله ، ثم نهاهم عن أن يبطلوا أعمالهم كما ، فقال : أبطلت الكفار أعمالها بالإصرار على الكفر ولا تبطلوا أعمالكم قال الحسن : أي لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي .
وقال الزهري : بالكبائر .
وقال الكلبي ، : بالرياء والسمعة . وابن جريج
وقال مقاتل : بالمن .
والظاهر النهي عن كل سبب من الأسباب التي توصل إلى بطلان الأعمال كائنا ما كان من غير تخصيص بنوع معين .
ثم بين سبحانه أنه لا يغفر للمصرين على الكفر والصد عن سبيل الله ، فقال : إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم فقيد سبحانه عدم المغفرة بالموت على الكفر ؛ لأن باب التوبة وطريق المغفرة لا يغلقان على من كان حيا ، وظاهر الآية العموم ، وإن كان السبب خاصا .
ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوهن ، والضعف فقال : فلا تهنوا أي تضعفوا عن القتال ، والوهن الضعف وتدعوا إلى السلم أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداء منكم ، فإن ذلك لا يكون إلا عند الضعف .
قال : منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلموا . الزجاج
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ( وتدعوا ) بتشديد الدال ، من ادعى القوم وتداعوا .
قال قتادة : معنى الآية : لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها .
واختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟ فقيل : إنها محكمة ، وإنها ناسخة لقوله : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها [ الأنفال : 61 ] ، وقيل : منسوخة بهذه الآية .
ولا يخفاك أنه لا مقتضى للقول بالنسخ ، فإن الله [ ص: 1379 ] سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية عن أن يدعوا إلى السلم ابتداء ولم ينه عن قبول السلم إذا جنح إليه المشركون ، فالآيتان محكمتان ولم يتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ ، أو التخصيص . وجملة وأنتم الأعلون في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة مقررة لما قبلها من النهي : أي وأنتم الغالبون بالسيف والحجة .
قال الكلبي : أي : آخر الأمر لكم ، وإن غلبوكم في بعض الأوقات ، وكذا جملة قوله : والله معكم في محل نصب على الحال : أي : معكم بالنصر والمعونة عليهم ولن يتركم أعمالكم أي : لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم ، يقال : وتره وترا : إذا نقصه حقه ، وأصله من وترت الرجل : إذا قتلت له قريبا ، أو نهبت له مالا ، ويقال : فلان مأتور : إذا قتل له قتيل ولم يؤخذ بدمه .
قال الجوهري : أي : لن ينقصكم في أعمالكم كما تقول : دخلت البيت ، وأنت تريد في البيت .
قال الفراء : هو مشتق من الوتر وهو الدخل ، وقيل : مشتق من الوتر وهو الفرد ، فكأن المعنى : ولن يفردكم بغير ثواب .
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو أي : باطل وغرور لا أصل لشيء منها ولا ثبات له ولا اعتداد به وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم أي : إن تؤمنوا بالله وتتقوا الكفر والمعاصي يؤتكم جزاء ذلك في الآخرة ، والأجر والثواب على الطاعة ولا يسألكم أموالكم أي لا يأمركم بإخراجها جميعها في الزكاة وسائر وجوه الطاعات ، بل أمركم بإخراج القليل منها وهو الزكاة .
وقيل المعنى : لا يسألكم أموالكم إنما يسألكم أمواله لأنه أملك لها ، وهو المنعم عليكم بإعطائها .
وقيل : لا يسألكم أموالكم أجرا على تبليغ الرسالة كما في قوله : ما أسألكم عليه من أجر [ الفرقان : 57 ] والأول أولى .
إن يسألكموها أي : أموالكم كلها فيحفكم قال المفسرون : يجهدكم ويلحف عليكم بمسألة جميعها ، يقال أحفى بالمسألة وألحف وألح بمعنى واحد ، والمحفي المستقصي في السؤال ، والإحفاء الاستقصاء في الكلام ، ومنه إحفاء الشارب : أي : استئصاله . وجواب الشرط قوله : تبخلوا أي : إن يأمركم بإخراج جميع أموالكم تبخلوا بها وتمتنعوا من الامتثال ويخرج أضغانكم معطوف على جواب الشرط ، ولهذا قرأ الجمهور ( يخرج ) بالجزم ، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بالرفع على الاستئناف ، وروي عنه أنه قرأ بفتح الياء وضم الراء ورفع ( أضغانكم ) ، وروي عن أنه قرأ بالنون ، وقرأ يعقوب الحضرمي ، ابن عباس ومجاهد ، وابن محيصن ، وحميد بالفوقية المفتوحة مع ضم الراء .
وعلى قراءة الجمهور فالفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه ، أو إلى البخل المدلول عليه بـ ( تبخلوا ) .
والأضغان : الأحقاد ، والمعنى : أنها تظهر عند ذلك .
قال قتادة : قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان .
هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله أي : ها أنتم هؤلاء أيها المؤمنون تدعون لتنفقوا في الجهاد وفي طريق الخير فمنكم من يبخل بما يطلب منه ويدعى إليه من الإنفاق في سبيل الله ، وإذا كان منكم من يبخل باليسير من المال ، فكيف لا تبخلون بالكثير وهو جميع الأموال .
ثم بين سبحانه أن فقال : ضرر البخل عائد على النفس ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه أي يمنعها الأجر والثواب ببخله ، و ( بخل ) يتعدى بـ " على " تارة ، و بـ " عن " أخرى .
وقيل : إن أصله أن يتعدى بعلى ، ولا يتعدى بعن إلا إذا ضمن معنى الإمساك والله الغني المطلق المتنزه عن الحاجة إلى أموالكم وأنتم الفقراء إلى الله وإلى ما عنده من الخير والرحمة ، وجملة وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم معطوفة على الشرطية المتقدمة وهي ( وإن تؤمنوا ) ، والمعنى : وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى يستبدل قوما آخرين يكونون مكانكم هم أطوع لله منكم ثم لا يكونوا أمثالكم في التولي عن الإيمان والتقوى .
قال عكرمة : هم فارس والروم .
وقال الحسن : هم العجم .
وقال شريح بن عبيد : هم أهل اليمن ، وقيل : الأنصار ، وقيل : الملائكة ، وقيل : التابعون .
وقال مجاهد : هم من شاء الله من سائر الناس .
قال : والمعنى ابن جرير ثم لا يكونوا أمثالكم في البخل بالإنفاق في سبيل الله .
وقد أخرج ، عبد بن حميد ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة ، عن وابن أبي حاتم ، أبي العالية قال : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يرون أنه لا يضر مع " لا إله إلا الله " ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم فخافوا أن يبطل الذنب العمل . ولفظ : فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالهم . عبد بن حميد
وأخرج ابن نصر ، ، وابن جرير وابن مردويه ، عن قال : كنا معشر أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نرى أنه ليس شيء من ابن عمر الحسنات إلا مقبول حتى نزلت أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش ، فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا قد هلك ، حتى نزلت هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك ، وكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئا رجوناه .
وأخرج ، عن ابن جرير في قوله : ( يتركم ) قال : ابن عباس وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم قالوا من هؤلاء ؟ وسلمان إلى جانب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ؟ فقال : هم الفرس ، هذا وقومه . لما نزلت
وفي إسناده وقد تفرد به ، وفيه مقال معروف . مسلم بن خالد الزنجي
وأخرجه عنه عبد الرزاق ، ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم في الأوسط ، والطبراني والبيهقي في الدلائل ، عن قال : أبي هريرة وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم فقالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ فضرب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على منكب سلمان ثم قال : هذا [ ص: 1380 ] وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس وفي إسناده أيضا تلا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هذه الآية . مسلم بن خالد الزنجي
وأخرج ابن مردويه من حديث جابر نحوه .