[ ص: 1413 ] لما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة على العموم ذكر حال طائفة منهم على الخصوص فقال : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم والموصول مبتدأ ، وخبره ألحقنا بهم ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مقدر : أي وأكرمنا الذين آمنوا ، ويكون ألحقنا مفسرا لهذا الفعل المقدر .
قرأ الجمهور واتبعتهم بإسناد الفعل إلى الذرية .
وقرأ أبو عمرو " أتبعناهم " بإسناد الفعل إلى المتكلم ، كقوله ألحقنا .
وقرأ الجمهور ذريتهم بالإفراد .
وقرأ ابن عامر ، وأبو عمرو ، ويعقوب بالجمع ، إلا أن أبا عمرو قرأ بالنصب على المفعولية لكونه قرأ : وأتبعناهم ، ورويت قراءة الجمع هذه عن نافع ، والمشهور عنه كقراءة الجمهور .
وقرأ الجمهور ألحقنا بهم ذريتهم بالإفراد .
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، ويعقوب على الجمع ، وجملة واتبعتهم ذريتهم معطوف على آمنوا أو معترضة ، وبإيمان متعلق بالاتباع ، ومعنى هذه الآية : أن الله سبحانه يرفع ذرية المؤمن إليه وإن كانوا دونه في العمل لتقر عينه وتطيب نفسه بشرط أن يكونوا مؤمنين ، فيختص ذلك بمن يتصف بالإيمان من الذرية وهم البالغون دون الصغار ، فإنهم وإن كانوا لاحقين بآبائهم فبدليل آخر غير هذه الآية .
وقيل إن الذرية تطلق على الكبار والصغار كما هو المعنى اللغوي ، فيلحق بالآباء المؤمنين صغار ذريتهم وكبارهم ، ويكون قوله : بإيمان في محل نصب على الحال : أي بإيمان من الآباء .
وقيل إن الضمير في بهم راجع إلى الذرية المذكورة أولا : أي ألحقنا بالذرية المتبعة لآبائهم بإيمان ذريتهم .
وقيل المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار فقط ، وظاهر الآية العموم ، ولا يوجب تخصيصها بالمهاجرين والأنصار كونهم السبب في نزولها إن صح ذلك ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وما ألتناهم من عملهم من شيء قرأ الجمهور بفتح اللام من ألتنا وقرأ ابن كثير بكسرها أي : وما نقصنا الآباء بإلحاق ذريتهم بهم من ثواب أعمالهم شيئا ، فضمير المفعول عائد إلى الذين آمنوا .
وقيل المعنى : وما نقصنا الذرية من أعمالهم شيئا لقصر أعمارهم ، والأول أولى ، وقد قدمنا تحقيق معنى لاته وألاته في سورة الحجرات .
وقرأ ابن هرمز " آلتناهم " بالمد ، وهو لغة ، قال في الصحاح : يقال ما آلته من عمله شيئا ، أي : ما نقصه . كل امرئ بما كسب رهين ورهين بمعنى مرهون والظاهر أنه عام وأن كل إنسان مرتهن بعمله ، فإن قام به على الوجه الذي أمره الله به فكه وإلا أهلكه .
وقيل هو بمعنى راهن ، والمعنى : كل امرئ بما كسب دائم ثابت .
وقيل هذا خاص بالكفار لقوله : كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين [ المدثر : 39 ، 38 ] .
ثم ذكر سبحانه ما أمدهم به من الخير فقال : وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون أي زدناهم على ما كان لهم من النعيم بفاكهة متنوعة ، ولحم من أنواع اللحمان مما تشتهيه أنفسهم ويستطيبونه .
يتنازعون فيها كأسا أي يتعاطون ويتناولون كأسا ، والكأس إناء الخمر ، ويطلق على كل إناء مملوء من خمر أو غيره ، فإذا فرغ لم يسم كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم قال : لا يجري بينهم ما يلغي ولا ما فيه إثم كما يجري بين من يشرب الخمر في الدنيا ، والتأثيم تفعيل من الإثم ، والضمير في فيها راجع إلى الكأس ، وقيل " لا لغو فيها " : أي في الجنة ولا يجري فيها ما فيه إثم والأول أولى . الزجاج
قال ابن قتيبة : لا تذهب بعقولهم فيلغوا كما يكون من خمر الدنيا ، ولا يكون منهم ما يؤثمهم .
وقال الضحاك : لا تأثيم : أي لا كذب .
قرأ الجمهور لا لغو فيها ولا تأثيم بالرفع والتنوين فيهما .
وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن بفتحهما من غير تنوين .
قال قتادة : اللغو الباطل .
وقال : لا فضول فيها . مقاتل بن حيان
وقال : لا رفث فيها . سعيد بن المسيب
وقال ابن زيد : لا سباب ولا تخاصم فيها .
والجملة في محل نصب على الحال صفة ل كأسا .
ويطوف عليهم غلمان لهم أي يطوف عليهم بالكأس والفواكه والطعام وغير ذلك مماليك لهم ، وقيل أولادهم كأنهم في الحسن والبهاء لؤلؤ مكنون أي مستور مصون في الصدف لم تمسه الأيدي .
قال : كننت الشيء : سترته وصنته من الشمس ، وأكننته : جعلته في الكن ، ومنه كننت الجارية وأكننتها فهي مكنونة . الكسائي
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون أي يسأل بعضهم بعضا في الجنة عن حاله ، وما كان فيه من تعب الدنيا وخوف العاقبة ، فيحمدون الله الذي أذهب عنهم الحزن والخوف والهم ، وما كانوا فيه من الكد والنكد بطلب المعاش وتحصيل ما لا بد منه من الرزق .
وقيل يقول بعضهم لبعض : بم صرتم في هذه المنزلة الرفيعة ؟ وقيل إن التساؤل بينهم عند البعث من القبور .
والأول أولى لدلالة السياق على أنهم قد صاروا في الجنة .
وجملة : قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين مستأنفة جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : ماذا قال بعضهم لبعض عند التساؤل ؟ فقيل : قالوا إنا كنا قبل : أي قبل الآخرة ، وذلك في الدنيا في أهلنا خائفين وجلين من عذاب الله أو كنا خائفين من عصيان الله .
فمن الله علينا بالمغفرة والرحمة أو بالتوفيق لطاعته ووقانا عذاب السموم يعني عذاب جهنم ، والسموم من أسماء جهنم كذا قال الحسن ومقاتل .
وقال الكلبي ، وأبو عبيدة : هو عذاب النار وقال : سموم جهنم ما يوجد من حرها . الزجاج
قال أبو عبيدة : السموم بالنهار ، وقد يكون بالليل ، والحرور بالليل ، وقد يكون بالنهار ، وقد يستعمل السموم في لفح البرد ، وفي لفح الشمس والحر أكثر ، ومنه قول الشاعر :
اليوم يوم بارد سمومه من جزع اليوم فلا ألومه
وقيل سميت الريح سموما لأنها تدخل المسام .إنا كنا من قبل ندعوه أي نوحد الله ونعبده : أو نسأله أن يمن علينا بالمغفرة والرحمة إنه هو البر الرحيم قرأ [ ص: 1414 ] الجمهور بكسر الهمزة على الاستئناف ، وقرأ نافع ، بفتحها أي : لأنه ، والبر كثير الإحسان ، وقيل اللطيف ، والرحيم كثير الرحمة لعباده . والكسائي
فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أي اثبت على ما أنت عليه من الوعظ والتذكير والباء متعلقة بمحذوف هو الحال : أي ما أنت ملتبسا بنعمة ربك التي أنعم بها عليك من رجاحة العقل والنبوة بكاهن ولا مجنون ، وقيل متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام : أي ما أنت حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ، وقيل الباء سببية متعلقة بمضمون الجملة المنفية ، والمعنى : انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك كما تقول ما أنا بمعسر بحمد الله .
وقيل الباء للقسم متوسطة بين اسم ما وخبرها ، والتقدير : ما أنت ونعمة الله بكاهن ولا مجنون ، والكاهن هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب من دون وحي : أي ليس ما تقوله كهانة ، فإنك إنما تنطق بالوحي الذي أمرك الله بإبلاغه .
والمقصود من الآية رد ما كان يقوله المشركون : إنه كاهن أو مجنون .
أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون " أم " هي المنقطعة ، وقد تقدم الخلاف هل هي مقدرة ببل والهمزة ، أو ببل وحدها .
قال الخليل : هي هنا للاستفهام .
قال : خوطب العباد بما جرى في كلامهم . سيبويه
قال النحاس : يريد أن " أم " في كلام العرب للخروج من حديث إلى حديث ، ونتربص في محل رفع صفة لشاعر ، وريب المنون : صروف الدهر ، والمعنى : ننتظر به حوادث الأيام فيموت كما مات غيره ، أو يهلك كما هلك من قبله ، والمنون يكون بمعنى الدهر ، ويكون بمعنى المنية . سيبويه
قال الأخفش : المعنى نتربص إلى ريب المنون ، فحذف حرف الجر ، كما تقول : قصدت زيدا وقصدت إلى زيد ، ومن هذا قول الشاعر :
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت خليلها
أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
قال الفراء : يكون واحدا وجمعا .
وقال الأخفش : هو جمع لا واحد له .
ثم أمره سبحانه أن يجيب عنهم ، فقال : قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أي انتظروا موتي أو هلاكي ، فإني معكم من المتربصين لموتكم أو هلاككم .
قرأ الجمهور " نتربص " بإسناد الفعل إلى جماعة المتكلمين .
قرأ على البناء للمفعول . زيد بن علي
أم تأمرهم أحلامهم بهذا أي بل أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض ، أن الكاهن هو المفرط في الفطنة والذكاء ، والمجنون : هو ذاهب العقل فضلا عن أن يكون له فطنة وذكاء .
قال الواحدي : قال المفسرون كانت عظماء قريش توصف بالأحلام والعقول فأزرأ الله بحلومهم حين لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل أم هم قوم طاغون أي بل أطغوا وجاوزوا الحد في العناد ، فقالوا ما قالوا ، وهذه الإضرابات من شيء إلى شيء مع الاستفهام كما هو مدلول أم المنقطعة تدل على أن ما تعقبها أشنع مما تقدمها ، وأكثر جرأة وعنادا .
أم يقولون تقوله أي اختلق القرآن من جهة نفسه وافتعله ، والتقول لا يستعمل إلا في الكذب في الغالب ، وإن كان أصله تكلف القول ، ومنه اقتال عليه ، ويقال اقتال عليه : بمعنى تحكم عليه ومنه قول الشاعر :
ومنزلة في دار صدق وغبطة وما اقتال في حكم علي طبيب
ثم تحداهم سبحانه وألزمهم الحجة فقال : فليأتوا بحديث مثله أي مثل القرآن في نظمه وحسن بيانه وبديع أسلوبه إن كانوا صادقين فيما زعموا من قولهم : إن محمدا صلى الله عليه وسلم تقوله وجاء به من جهة نفسه مع أنه كلام عربي ، وهم رؤوس العرب وفصحاؤهم والممارسون لجميع الأوضاع العربية من نظم ونثر .
وقد أخرج ، سعيد بن منصور وهناد ، ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم والحاكم ، والبيهقي عن قال : إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر به عينه . ثم قرأ ابن عباس والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم الآية .
وأخرجه البزار ، وابن مردويه عنه مرفوعا .
وأخرج ، الطبراني وابن مردويه عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ، وقرأ إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده ، فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك ، فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم ، فيؤمر بإلحاقهم به ابن عباس والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم الآية .
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : علي بن أبي طالب وإن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا الآية المشركين وأولادهم في النار وإسناده هكذا . إن
قال عبد الله بن أحمد : حدثنا حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن محمد بن فضيل ، محمد بن عثمان ، عن زاذان ، عن قال : علي بن أبي طالب النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هما في النار ، فلما رأى الكراهة في وجهها قال : لو رأيت مكانهما لأبغضتهما ، قالت : يا رسول الله فولدي منك . قال : في الجنة ، قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار ، ثم قرأ والذين آمنوا الآية خديجة . سألت
وقال الإمام أحمد في المسند : حدثنا يزيد حدثنا عن حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة وإسناده صحيح . إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة ، فيقول : يا رب من أين لي هذا ، فيقول باستغفار ولدك لك
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، والحاكم عن ابن عباس وما ألتناهم قال : ما نقصناهم .
وأخرج عنه ابن أبي حاتم لا لغو فيها يقول : [ ص: 1415 ] باطل ولا تأثيم يقول كذب .
وأخرج البزار عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان ، فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا ، فيتحدثان فيتكئ ذا ويتكئ ذا فيتحدثان بما كانوا في الدنيا ، فيقول أحدهما : يا فلان تدري أي يوم غفر الله لنا ؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا ، فدعونا الله فغفر لنا
وأخرج ابن المنذر عن عائشة قالت : لو فتح الله على أهل الأرض من عذاب السموم قدر الأنملة لأحرقت الأرض ومن عليها .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس إنه هو البر قال : اللطيف .
وأخرج ، ابن إسحاق عنه أن وابن جرير قريشا لما اجتمعوا إلى دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم احبسوه في وثاق ، وتربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء : زهير والنابغة ، إنما هو كأحدهم ، فأنزل الله في ذلك أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، عنه أيضا في قوله : وابن أبي حاتم ريب المنون قال : الموت .