ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام الوجه عبارة عن ذاته سبحانه ووجوده ، وقد تقدم في سورة البقرة بيان معنى هذا ، وقيل : معنى " يبقى وجه ربك " تبقى حجته التي يتقرب بها إليه ، والجلال : العظمة والكبرياء واستحقاق صفات المدح ، يقال جل الشيء : أي عظم ، وأجللته أي : أعظمته ، وهو اسم من جل .
ومعنى ذو الإكرام : أنه يكرم عن كل شيء لا يليق به ، وقيل إنه ذو الإكرام لأوليائه ، والخطاب في قوله ربك للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له .
قرأ الجمهور ذو الجلال على أنه صفة لوجه ، وقرأ أبي ، : " ذي الجلال " على أنه صفة لرب . وابن مسعود
" فبأي آلاء ربكما تكذبان " وجه النعمة في فناء الخلق أن الموت سبب النقلة إلى دار الجزاء والثواب .
وقال مقاتل : وجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت ، ومع الموت تستوي الأقدام .
يسأله من في السماوات والأرض أي يسألونه جميعا لأنهم محتاجون إليه لا يستغني عنه أحد منهم .
قال أبو صالح : يسأله أهل السماوات المغفرة ولا يسألونه الرزق ، وأهل الأرض يسألونه الأمرين جميعا .
وقال مقاتل : يسأله أهل الأرض الرزق والمغفرة وتسأل لهم الملائكة أيضا الرزق والمغفرة ، وكذا قال . ابن جريج
وقيل يسألونه الرحمة .
قال قتادة : لا يستغني عنه أهل السماء ولا أهل الأرض .
والحاصل أنه يسأله كل مخلوق من مخلوقاته بلسان المقال أو لسان الحال ما يطلبونه من خيري الدارين أو من خيري إحداهما " كل يوم هو في شأن " انتصاب 30 " كل " بالاستقرار الذي تضمنه الخبر ، والتقدير : استقر سبحانه في شأن كل وقت من الأوقات ، واليوم عبارة عن الوقت ، والشأن هو الأمر ، ومن جملة شؤونه سبحانه إعطاء أهل السماوات والأرض ما يطلبونه منه على اختلاف حاجاتهم وتباين أغراضهم .
قال المفسرون : من شأنه أنه يحيي ويميت ، ويرزق ويفقر ، ويعز ويذل ويمرض ويشفي ، ويعطي ويمنع ، ويغفر ويعاقب إلى غير ذلك مما لا يحصى .
وقيل المراد باليوم المذكور هو يوم الدنيا ويوم الآخرة .
قال ابن بحر : الدهر كله يومان : أحدهما مدة أيام الدنيا ، والآخر يوم القيامة .
وقيل المراد كل يوم من أيام الدنيا .
فبأي آلاء ربكما تكذبان فإن اختلاف شؤونه سبحانه في تدبير عباده نعمة لا يمكن جحدها ولا يتيسر لمكذب تكذيبها .
سنفرغ لكم أيها الثقلان هذا وعيد شديد من الله سبحانه للجن والإنس .
قال ، الزجاج ، والكسائي ، وابن الأعرابي وأبو علي الفارسي : إن الفراغ هاهنا ليس هو الفراغ من شغل ، ولكن تأويله القصد : أي سنقصد لحسابكم .
قال الواحدي حاكيا عن المفسرين : إن هذا تهديد منه سبحانه لعباده ، ومن هذا قول القائل لمن يريد تهديده : إذن أتفرغ لك أي أقصد قصدك ، وفرغ يجيء بمعنى قصد ، وأنشد قول الشاعر : ابن الأنباري
الآن وقد فرغت إلى نمير فهذا حين كنت له عذابا
يريد وقد قصدت ، وأنشد النحاس قول الشاعر :فرغت إلى العبد المقيد في الحجل
أي قصدت وقيل : إن الله سبحانه وعد على التقوى وأوعد على المعصية ، ثم قال : " سنفرغ لكم " مما وعدناكم ونوصل كلا إلى ما وعدناه ، وبه قال الحسن ، ومقاتل ، وابن زيد ، ويكون الكلام على طريق التمثيل .قرأ الجمهور " سنفرغ " بالنون وضم الراء ، وقرأ حمزة ، بالتحتية مفتوحة مع ضم الراء : أي سيفرغ الله . والكسائي
وقرأ بالنون مع فتح الراء . الأعرج
قال : هي لغة تميم ، وقرأ الكسائي عيسى الثقفي بكسر النون وفتح الراء ، وقرأ ، الأعمش وإبراهيم بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول ، وسمي الجن والإنس ثقلين لعظم شأنهما بالنسبة إلى غيرهما من حيوانات الأرض ، وقيل سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا كما في قوله : وأخرجت الأرض أثقالها [ الزلزلة : 2 ] وقال : سميا ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب ، وجمع في قوله لكم ثم قال أيها الثقلان لأنهما فريقان ، وكل فريق جمع . جعفر الصادق
قرأ الجمهور " أيها الثقلان " بفتح الهاء ، وقرأ أهل الشام بضمها .
فبأي آلاء ربكما تكذبان فإن من جملتها ما في هذا التهديد من النعم ، فمن ذلك أنه ينزجر به المسيء عن إساءته ، ويزداد به المحسن إحسانا فيكون ذلك سببا للفوز بنعيم الدار الآخرة الذي هو النعيم في الحقيقة .
يامعشر الجن والإنس قدم الجن هنا لكون خلق أبيهم متقدما على خلق آدم ، ولوجود جنسهم قبل جنس الإنس " إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض " أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب [ ص: 1437 ] السماوات والأرض ونواحيهما هربا من قضاء الله وقدره فانفذوا منها وخلصوا أنفسكم ، يقال نفذ الشيء من الشيء : إذا خلص منه كما يخلص السهم " لا تنفذون إلا بسلطان " أي لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة وقهر ولا قوة لكم على ذلك ولا قدرة ، والسلطان : القوة التي يتسلط بها صاحبها على الأمر ، والأمر بالنفوذ : أمر تعجيز .
قال الضحاك : بينما الناس في أسواقهم إذ انفتحت السماء ونزلت الملائكة فهرب الجن والإنس فتحدق بهم الملائكة ، فذلك قوله : لا تنفذون إلا بسلطان .
قال : إن ذلك يكون في الآخرة . ابن المبارك
وقال الضحاك أيضا : معنى الآية : إن استطعتم أن تهربوا من الموت فاهربوا .
وقيل إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان : أي ببينة من الله .
وقال قتادة : معناها لا تنفذوا إلا بملك وليس لكم ملك .
وقيل الباء بمعنى إلى : أي لا تنفذون إلا إلى سلطان .
فبأي آلاء ربكما تكذبان ومن جملتها هذه النعمة الحاصلة بالتحذير والتهديد ، فإنها تزيد المحسن إحسانا ، وتكف المسيء عن إساءته ، مع أن من حذركم وأنذركم قادر على الإيقاع بكم من دون مهلة .
يرسل عليكما شواظ من نار قرأ الجمهور يرسل بالتحتية مبنيا للمفعول ، وقرأ بالنون ونصب شواظ . والشواظ : اللهب الذي لا دخان معه . زيد بن علي
وقال مجاهد : الشواظ : اللهب الأخضر المتقطع من النار .
وقال الضحاك : هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب .
وقال الأخفش ، وأبو عمرو : هو النار والدخان جميعا .
قرأ الجمهور شواظ بضم الشين ، وقرأ ابن كثير بكسرها وهما لغتان ، وقرأ الجمهور ونحاس بالرفع عطفا على شواظ ، وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن ، ومجاهد ، وأبو عمرو بخفضه عطفا على نار ، وقرأ الجمهور نحاس بضم النون ، وقرأ مجاهد ، وعكرمة ، وحميد ، وأبو العالية بكسرها .
وقرأ مسلم بن جندب ، والحسن " ونحس " والنحاس : الصفر المذاب يصب على رؤوسهم ، قاله مجاهد ، وقتادة وغيرهما .
وقال : هو الدخان الذي لا لهب له ، وبه قال سعيد بن جبير الخليل .
وقال الضحاك : هو دردي الزيت المغلي .
وقال : هو النار التي لها ريح شديدة . الكسائي
وقيل هو المهل فلا تنتصران أي لا تقدران على الامتناع من عذاب الله .
فبأي آلاء ربكما تكذبان فإن من جملتها هذا الوعيد الذي يكون به الانزجار عن الشر والرغوب في الخير .
فإذا انشقت السماء أي انصدعت بنزول الملائكة يوم القيامة فكانت وردة كالدهان أي كوردة حمراء .
قال ، سعيد بن جبير وقتادة : المعنى فكانت حمراء .
وقيل فكانت كلون الفرس الورد ، وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة أو الصفرة .
قال الفراء ، وأبو عبيدة : تصير السماء كالأديم لشدة حر النار .
وقال الفراء أيضا : شبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل .
وشبه الورد في ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه ، والدهان جمع دهن ، وقيل المعنى تصير السماء في حمرة الورد ، وجريان الدهن : أي تذوب مع الانشقاق حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم ، وتصير مثل الدهن لذوبانها ، وقيل الدهان الجلد الأحمر .
وقال الحسن كالدهان : أي كصبيب الدهن ، فإنك إذا صببته ترى فيه ألوانا .
وقال : إنها تصير كعصير الزيت . زيد بن أسلم
قال : إنها اليوم خضراء وسيكون لها لون أحمر . الزجاج
قال الماوردي : وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة ، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق .
فبأي آلاء ربكما تكذبان فإن من جملتها ما في هذا التهديد والتخويف من حسن العاقبة بالإقبال على الخير والإعراض عن الشر .
فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان أي يوم تنشق السماء لا يسأل أحد من الإنس ولا من الجن عن ذنبه ، لأنهم يعرفون بسيماهم عند خروجهم من قبورهم ، والجمع بين هذه الآية وبين مثل قوله : فوربك لنسألنهم أجمعين [ الحجر : 92 ] أن ما هنا يكون في موقف والسؤال في موقف آخر من مواقف القيامة . وقيل إنهم لا يسألون هنا سؤال استفهام عن ذنوبهم ، لأن الله سبحانه قد أحصى الأعمال وحفظها على العباد ، ولكن يسألون سؤال توبيخ وتقريع ، ومثل هذه الآية قوله : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ القصص : 78 ] قال أبو العالية : المعنى لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم .
وقيل إن عدم السؤال هو عند البعث ، والسؤال هو في موقف الحساب .
فبأي آلاء ربكما تكذبان فإن من جملتها هذا الوعيد الشديد لكثرة ما يترتب عليه من الفوائد .
يعرف المجرمون بسيماهم هذه الجملة جارية مجرى التعليل لعدم السؤال .
السيما : العلامة .
قال الحسن : سيماهم سواد الوجوه وزرقة الأعين ، كما في قوله : ونحشر المجرمين يومئذ زرقا [ طه : 102 ] وقال : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه [ آل عمران : 106 ] وقيل سيماهم ما يعلوهم من الحزن والكآبة فيؤخذ بالنواصي والأقدام الجار والمجرور في محل رفع على أنه النائب ، والنواصي شعور مقدم الرؤوس ، والمعنى : أنها تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي ، وتلقيهم الملائكة في النار .
قال الضحاك : يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره ، وقيل تسحبهم الملائكة إلى النار ، تارة تأخذ بنواصيهم وتجرهم على وجوههم ، وتارة تأخذ بأقدامهم وتجرهم على رؤوسهم .
فبأي آلاء ربكما تكذبان فإن من جملتها هذا الترهيب الشديد والوعيد البالغ الذي ترجف له القلوب وتضطرب لهوله الأحشاء .
هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون أي يقال لهم عند ذلك هذه جهنم التي تشاهدونها وتنظرون إليها مع أنكم كنتم تكذبون بها وتقولون إنها لا تكون ، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : فماذا يقال لهم عند الأخذ بالنواصي والأقدام .
فقيل يقال لهم هذه جهنم تقريعا لهم وتوبيخا .
يطوفون بينها أي بين جهنم فتحرقهم وبين حميم آن فتصب على وجوههم ، والحميم : الماء الحار ، والآن : الذي قد انتهى حره وبلغ غايته .
[ ص: 1438 ] كذا قال الفراء : قال : أنى يأنى أنى فهو آن : إذا انتهى في النضج والحرارة ، ومنه قول الزجاج النابغة الذبياني :
وتخضب لحية غدرت وخانت بأحمر من نجيع الجوف آن
قال قتادة : يطوفون مرة في الحميم ومرة بين الجحيم .
45 - فبأي آلاء ربكما تكذبان فإن من جلمتها النعمة الحاصلة بهذا التخويف وما يحصل به من الترغيب في الخير والترهيب عن الشر .
وقد أخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن في قوله : ابن عباس ذو الجلال والإكرام قال ذو الكبرياء والعظمة .
وأخرج ، ابن جرير عنه وابن أبي حاتم يسأله من في السماوات قال : مسألة عباده إياه الرزق والموت والحياة كل يوم هو في ذلك .
وأخرج في مسنده الحسن بن سفيان ، والبزار ، وابن جرير ، والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن منده ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، عن وابن عساكر عبد الله بن منيب قال : كل يوم هو في شأن فقلنا : يا رسول الله وما ذلك الشأن ؟ قال : أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ، ويرفع قوما ويضع آخرين وأخرج تلا علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : في تاريخه البخاري ، وابن ماجه ، وابن أبي عاصم ، والبزار ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه ، ، وابن عساكر والبيهقي في الشعب عن عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال : أبي الدرداء زاد من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين البزار : ويجيب داعيا وقد رواه تعليقا ، وجعله من كلام البخاري . أبي الدرداء
وأخرج البزار عن عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال : ابن عمر . يغفر ذنبا ويفرج كربا
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن في قوله : ابن عباس سنفرغ لكم أيها الثقلان قال : هذا وعيد من الله لعباده ، وليس بالله شغل ، وفي قوله : لا تنفذون إلا بسلطان يقول : لا تخرجون من سلطاني .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، عنه في قوله : وابن أبي حاتم يرسل عليكما شواظ من نار قال : لهب النار ونحاس قال : دخان النار .
وأخرج عنه أيضا و " نحاس " : قال الصفر يعذبون به . ابن جرير
وأخرج عنه فكانت وردة يقول حمراء كالدهان قال : هو الأديم الأحمر . ابن أبي حاتم
وأخرج ، الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير وابن المنذر ، عنه أيضا وابن أبي حاتم فكانت وردة كالدهان قال : مثل لون الفرس الورد .
وأخرج عنه أيضا في قوله : ابن أبي حاتم فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان قال : لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا ؛ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يقول لهم لم عملتم كذا وكذا .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في البعث والنشور عنه أيضا في قوله : فيؤخذ بالنواصي والأقدام قال : تأخذ الزبانية بناصيته وقدميه ويجمع فيكسر كما يكسر الحطب في التنور .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، عنه أيضا في قوله : وابن أبي حاتم وبين حميم آن قال : هو الذي انتهى حره .