إن الذين يخشون ربهم بالغيب لما فرغ سبحانه من ذكر أحوال أهل النار ذكر أهل الجنة ، و " بالغيب " حال من الفاعل أو المفعول ، أي : غائبين عنه ، أو غائبا عنهم ، والمعنى : أنهم يخشون عذابه ولم يروه فيؤمنون به خوفا من عذابه ، ويجوز أن يكون المعنى : يخشون ربهم حال كونهم غائبين عن أعين الناس وذلك في خلواتهم ، أو المراد بالغيب كون العذاب غائبا عنهم لأنهم في الدنيا ، وهو إنما يكون يوم القيامة ، فتكون الباء على هذا سببية قوله : لهم مغفرة عظيمة يغفر الله بها ذنوبهم وأجر كبير وهو الجنة ، ومثل هذه الآية قوله : من خشي الرحمن بالغيب [ ق : 33 ] .
ثم عاد سبحانه إلى خطاب الكفار فقال : وأسروا قولكم أو اجهروا به هذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان تساوي الإسرار والجهر بالنسبة إلى علم الله سبحانه ، والمعنى : إن أخفيتم كلامكم أو جهرتم به في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكل ذلك يعلمه الله لا تخفى عليه منه خافية ، وجملة إنه عليم بذات الصدور تعليل للاستواء المذكور ، وذات الصدور هي مضمرات القلوب .
والاستفهام في قوله : ألا يعلم من خلق للإنكار ، والمعنى : ألا يعلم السر . ومضمرات القلوب من خلق ذلك وأوجده ، فالموصول عبارة عن الخالق ، ويجوز أن يكون عبارة عن المخلوق ، وفي " يعلم " ضمير يعود إلى الله ، أي : ألا يعلم الله المخلوق الذي هو من جملة خلقه ، فإن الإسرار والجهر ومضمرات القلوب من جملة خلقه ، وجملة وهو اللطيف الخبير في محل نصب على الحال من فاعل " يعلم " ، أي الذي لطف علمه بما في القلوب ، الخبير بما تسره وتضمره من الأمور ، لا تخفى عليه من ذلك خافية .
ثم امتن سبحانه على عباده فقال : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا أي : سهلة لينة تستقرون عليها ، و لم يجعلها خشنة بحيث يمتنع عليكم السكون فيها والمشي عليها ، والذلول في الأصل : هو المنقاد الذي يذل لك ولا يستصعب عليك ، والمصدر الذل ، والفاء في قوله : فامشوا في مناكبها لترتيب الأمر بالمشي على الجعل المذكور ، والأمر للإباحة .
قال مجاهد ، والكلبي ، ومقاتل : مناكبها طرقها وأطرافها وجوانبها .
وقال قتادة ، : مناكبها جبالها ، وأصل المنكب الجانب ، ومنه منكب الرجل ، ومنه الريح النكباء ، لأنها تأتي من جانب دون جانب وشهر بن حوشب وكلوا من رزقه أي : مما رزقكم وخلقه لكم في الأرض وإليه النشور أي : وإليه البعث من قبوركم ، لا إلى غيره ، [ ص: 1513 ] وفي هذا وعيد شديد .
ثم خوف سبحانه الكفار .
فقال : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض قال الواحدي قال المفسرون : يعني عقوبة من في السماء ، وقيل : من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه وملائكته ، وقيل : من في السماء من الملائكة ، وقيل : المراد جبريل ، ومعنى أن يخسف بكم الأرض يقلعها ملتبسة بكم كما فعل بقارون بعد ما جعلها لكم ذلولا تمشون في مناكبها ، وقوله : أن يخسف بدل اشتمال من الموصول ، أي : أأمنتم خسفه ، أو على حذف من ، أي : من أن يخسف فإذا هي تمور أي : تضطرب وتتحرك على خلاف ما كانت عليه من السكون .
قرأ الجمهور أأمنتم بهمزتين ، وقرأ البصريون والكوفيون بالتخفيف ، وقرأ ابن كثير بقلب الأولى واوا .
ثم كرر سبحانه التهديد لهم بوجه آخر فقال : أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا أي : حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل ، وقيل : سحاب فيها حجارة ، وقيل : ريح فيها حجارة فستعلمون كيف نذير أي : إنذاري إذا عاينتم العذاب ولا ينفعكم هذا العلم ، وقيل : النذير هنا محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله عطاء ، والضحاك .
والمعنى : ستعلمون رسولي وصدقه ، والأول أولى .
والكلام في أن يرسل عليكم حاصبا كالكلام في أن يخسف بكم الأرض فهو إما بدل اشتمال ، أو بتقدير " من " .
ولقد كذب الذين من قبلهم أي الذين قبل كفار مكة من كفار الأمم الماضية .
كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وأصحاب الرس وقوم فرعون فكيف كان نكير أي : فكيف كان إنكاري عليهم بما أصبتهم به من العذاب الفظيع .
أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات الهمزة للاستفهام والواو للعطف على مقدر ، أي : أغفلوا و لم ينظروا ، ومعنى صافات أنها صافة لأجنحتها في الهواء وتبسطها عند طيرانها ويقبضن أي : يضممن أجنحتهن .
قال النحاس : يقال للطائر إذا بسط جناحه صاف ، وإذا ضمها قابض كأنه يقبضها ، وهذا معنى الطيران ، وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط ومنه قول أبي خراش :
يبادر جنح الليل فهو مزايل تحت الجناح بالتبسط والقبض
وإنما قال : ويقبضن ولم يقل قابضات كما قال صافات ؛ لأن القبض يتجدد تارة فتارة ، وأما البسط فهو الأصل ، كذا قيل .وقيل : إن معنى ويقبضن قبضهن لأجنحتهن عند الوقوف من الطيران ، لا قبضها في حال الطيران ، وجملة ما يمسكهن إلا الرحمن في محل نصب على الحال من فاعل " يقبضن " ، أو مستأنفة لبيان كمال قدرة الله سبحانه ، والمعنى : أنه ما يمسكهن في الهواء عند الطيران إلا الرحمن القادر على كل شيء إنه بكل شيء بصير لا يخفى عليه شيء كائنا ما كان .
أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والمعنى أنه لا جند لكم يمنعكم من عذاب الله ، والجند الحزب والمنعة .
قرأ الجمهور أمن هذا بتشديد الميم على إدغام ميم " أم " في ميم " من " و " أم " بمعنى " بل " ولا سبيل إلى تقدير الهمزة بعدها كما هو الغالب في تقدير أم المنقطعة ببل والهمزة ؛ لأن بعدها هنا " من " الاستفهامية فأغنت عن ذلك التقدير ، و " من " الاستفهامية مبتدأ واسم الإشارة خبره ، والموصول مع صلته صفة اسم الإشارة ، و " ينصركم " صفة لجند ، و " من دون الرحمن " في محل نصب على الحال من فاعل " ينصركم " ، والمعنى : بل من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم متجاوزا نصر الرحمن ، وقرأ بتخفيف الأولى وتثقيل الثانية ، وجملة طلحة بن مصرف إن الكافرون إلا في غرور معترضة مقررة لما قبلها ناعية عليهم ما هم فيه من الضلال ، والمعنى : ما الكافرون إلا في غرور عظيم من جهة الشيطان يغرهم به .
أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه الكلام في هذا كالكلام في الذي قبله قراءة وإعرابا ، أي : من الذي يدر عليكم الأرزاق من المطر وغيره إن أمسك الله ذلك عنكم ومنعه عليكم بل لجوا في عتو ونفور أي : لم يتأثروا لذلك ، بل تمادوا في عناد واستكبار عن الحق ونفور عنه و لم يعتبروا ولا تفكروا ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي : إن أمسك رزقه فمن يرزقكم غيره ، والعتو العناد والطغيان ، والنفور الشرود .
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس إن الذين يخشون ربهم بالغيب قال : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، . وأبو عبيدة بن الجراح
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله : في مناكبها قال : جبالها .
وأخرج عنه أيضا قال : أطرافها . ابن جرير
وأخرج ، الطبراني ، وابن عدي والبيهقي في الشعب والحكيم ، الترمذي عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عمر . إن الله يحب العبد المؤمن المحترف
وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس بل لجوا في عتو ونفور قال : في ضلال .