لما ذكر سبحانه أنه بالمرصاد ذكر ما يدل على اختلاف أحوال عباده عند إصابة الخير وعند إصابة الشر ، وأن مطمح أنظارهم ومعظم مقاصدهم هو الدنيا فقال : فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه أي امتحنه واختبره بالنعم فأكرمه ونعمه أي أكرمه بالمال ووسع عليه رزقه فيقول ربي أكرمني فرحا بما نال وسرورا بما أعطي ، غير شاكر لله على ذلك ولا خاطر بباله أن ذلك امتحان له من ربه واختبار لحاله وكشف لما يشتمل عليه من الصبر والجزع والشكر للنعمة وكفرانها ، و " ما " في قوله : " إذا ما " زائدة ، وقوله : فأكرمه ونعمه تفسير للابتلاء ومعنى أكرمن أي فضلني بما أعطاني من المال وأسبغه علي من النعم لمزيد استحقاقي لذلك وكوني موضعا له ، والإنسان مبتدأ ، وخبره فيقول ربي أكرمن ودخلت الفاء فيه لتضمن " أما " معنى الشرط ، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر وإن تقدم لفظا فهو مؤخر في المعنى : أي فأما الإنسان فيقول ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام .
قال الكلبي : الإنسان هو الكافر أبي بن خلف .
وقال مقاتل : نزلت في أمية بن خلف ، وقيل نزلت في عتبة بن ربيعة ، وأبي حذيفة بن المغيرة .
وأما إذا ما ابتلاه أي اختبره وعامله معاملة من يختبره فقدر عليه رزقه أي ضيقه ولم يوسعه له ، ولا بسط له فيه فيقول ربي أهانن أي أولاني هوانا ، وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث ، فإنه لا كرامة عنده إلا الدنيا والتوسيع في متاعها ، ولا إهانة عنده إلا فوتها وعدم وصوله إلى ما يريد من زينتها ، فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته ويوفقه لعمل الآخرة ، ويحتمل أن يراد الإنسان على العموم لعدم تيقنه أن ما صار إليه من الخير وما أصيب به من الشر في الدنيا ليس إلا للاختبار والامتحان ، وأن الدنيا بأسرها لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، ولو كانت تعدل جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء .
قرأ نافع بإثبات الياء في أكرمن و أهانن وصلا وحذفهما وقفا ، وقرأ ابن كثير في رواية البزي عنه وابن محيصن ، ويعقوب بإثباتهما وصلا ووقفا ، وقرأ الباقون بحذفهما في الوصل [ ص: 1621 ] والوقف اتباعا لرسم المصحف ولموافقة رؤوس الآي ، والأصل إثباتهما لأنها اسم ، ومن الحذف قول الشاعر :
ومن كاشح ظاهر غمره إذا ما انتصبت له أنكرن
أي أنكرني .وقرأ الجمهور فقدر بالتخفيف ، وقرأ ابن عامر بالتشديد ، وهما لغتان .
وقرأ الحرميان وأبو عمرو ربي بفتح الياء في الموضعين وأسكنها الباقون .
وقوله : كلا ردع للإنسان القائل في الحالتين ما قال وزجر له ، فإن الله سبحانه قد يوسع الرزق ويبسط النعم للإنسان لا لكرامته ، ويضيقه عليه لا لإهانته ، بل للاختبار والامتحان كما تقدم .
قال الفراء : " كلا " في هذا الموضع بمعنى أنه لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا ، ولكن يحمد الله على الغنى والفقر .
ثم انتقل سبحانه من بيان سوء أقوال الإنسان إلى بيان سوء أفعاله فقال : بل لا تكرمون اليتيم والالتفات إلى الخطاب لقصد التوبيخ والتقريع على قراءة الجمهور بالفوقية .
وقرأ الجمهور تحاضون و تأكلون و تحبون بالفوقية على الخطاب فيها .
وقرأ أبو عمرو ، ويعقوب بالتحتية فيها ، والجمع في هذه الأفعال باعتبار معنى الإنسان ؛ لأن المراد به الجنس : أي بل لكم أفعال هي أقبح مما ذكر ، وهي أنكم تتركون إكرام اليتيم فتأكلون ماله وتمنعونه من فضل أموالكم .
قال مقاتل : نزلت في وكان يتيما في قدامة بن مظعون حجر أمية بن خلف .
ولا تحاضون على طعام المسكين قرأ الجمهور " تحضون " من حضه على كذا أي : أغراه به ، ومفعوله محذوف : أي لا تحضون أنفسكم ، أو لا يحض بعضكم بعضا على ذلك ولا يأمر به ولا يرشد إليه ، وقرأ الكوفيون تحاضون بفتح التاء والحاء بعدها ألف ، وأصله تتحاضون ، فحذف إحدى التاءين : أي لا يحض بعضكم بعضا .
وقرأ في رواية عنه الكسائي والسلمي " تحاضون بضم التاء من الحض ، وهو الحث ، وقوله : على طعام المسكين متعلق بـ " تحضون " وهو إما اسم مصدر : أي على إطعام المسكين ، أو اسم للمطعوم ، ويكون على حذف مضاف : أي على بذل طعام المسكين ، أو على إعطاء طعام المسكين .
وتأكلون التراث أصله الوراث ، فأبدلت التاء من الواو المضمومة ، كما في تجاه ووجاه ، والمراد به أموال اليتامى الذين يرثونه من قراباتهم ، وكذلك أموال النساء ، وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون أموالهم أكلا لما أي أكلا شديدا ، وقيل معنى لما جمعا ، من قولهم : لممت الطعام : إذا أكلته جميعا .
قال الحسن : يأكل نصيبه ونصيب اليتيم ، وكذا قال أبو عبيدة .
وأصل اللم في كلام العرب : الجمع ، يقال لممت الشيء ألمه لما : جمعته ، ومنه قولهم : لم الله شعثه : أي جمع ما تفرق من أموره ، ومنه قول النابغة :
ولست بمستبق أخا لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب
وقال مجاهد : يسفه سفا .
وقال ابن زيد : هو إذا أكل ماله ألم بمال غيره فأكله ولا يفكر فيما أكل من خبيث وطيب .
وتحبون المال حبا جما أي حبا كثيرا ، والجم الكثير ، يقال جم الماء في الحوض : إذا كثر واجتمع ، والجمة : المكان الذي يجتمع فيه الماء .
ثم كرر سبحانه الردع لهم والزجر فقال : كلا أي ما هكذا ينبغي أن يكون عملكم .
ثم استأنف سبحانه فقال : إذا دكت الأرض دكا دكا وفيه وعيد لهم بعد الردع والزجر ، والدك : الكسر والدق ، والمعنى هنا : أنها زلزلت وحركت تحريكا بعد تحريك .
قال ابن قتيبة : دكت جبالها حتى استوت .
قال : أي تزلزلت فدك بعضها بعضا . الزجاج
قال : أي بسطت وذهب ارتفاعها . المبرد
قال والدك : حط المرتفع بالبسط ، وقد تقدم الكلام على الدك في سورة الأعراف ، وفي سورة الأحقاف ، والمعنى : أنها دكت مرة بعد أخرى ، وانتصاب دكا الأول على أنه مصدر مؤكد للفعل ، ودكا الثاني تأكيد للأول ، كذا قال ابن عصفور .
ويجوز أن يكون النصب على الحال : أي حال كونها مدكوكة مرة بعد مرة ، كما يقال : علمته الحساب بابا بابا ، وعلمته الخط حرفا حرفا ، والمعنى : أنه كرر الدك عليها حتى صارت هباء منبثا .
وجاء ربك أي جاء أمره وقضاؤه وظهرت آياته ، وقيل المعنى : أنها زالت الشبه في ذلك اليوم وظهرت المعارف وصارت ضرورية كما يزول الشك عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه ، وقيل جاء قهر ربك وسلطانه وانفراده بالأمر والتدبير من دون أن يجعل إلى أحد من عباده شيئا من ذلك والملك صفا صفا انتصاب صفا صفا على الحال : أي مصطفين ، أو ذوي صفوف .
قال عطاء : يريد صفوف الملائكة ، وأهل كل سماء صف على حدة .
قال الضحاك : أهل كل سماء إذا نزلوا يوم القيامة كانوا صفا محيطين بالأرض ومن فيها ، فيكونون سبعة صفوف .
وجيء يومئذ بجهنم يومئذ منصوب بجيء ، والقائم مقام الفاعل بجهنم وجوز مكي أن يكون يومئذ هو القائم مقام الفاعل ، وليس بذاك .
قال الواحدي : قال جماعة من المفسرين : جيء بها يوم القيامة مزمومة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش ، فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه يقول يا رب نفسي نفسي .
وسيأتي هذا الذي نقله عن جماعة المفسرين مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله يومئذ يتذكر الإنسان يومئذ هذا بدل من " يومئذ " الذي قبله : أي يوم جيء بجهنم يتذكر الإنسان .
أي يتعظ ويذكر ما فرط منه ويندم على ما قدمه في الدنيا من الكفر والمعاصي .
وقيل إن قوله : " يومئذ " الثاني بدل من قوله : إذا دكت والعامل فيهما هو قوله : يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى أي ومن أين له التذكر والاتعاظ ، وقيل هو على حذف مضاف : أي ومن أين له منفعة الذكرى .
قال : يظهر التوبة ومن أين التوبة ؟ . الزجاج
يقول ياليتني قدمت لحياتي الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر ، كأنه [ ص: 1622 ] قيل : ماذا يقول الإنسان ، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من قوله : يتذكر ، والمعنى : يتمنى أنه قدم الخير والعمل الصالح ، واللام في لحياتي بمعنى لأجل حياتي ، والمراد حياة الآخرة ، فإنها الحياة بالحقيقة ، لأنها دائمة غير منقطعة .
وقيل إن اللام بمعنى في ، والمراد حياة الدنيا : أي يا ليتني قدمت الأعمال الصالحة في وقت حياتي في الدنيا أنتفع بها هذا اليوم ، والأول أولى : قال الحسن : علم والله أنه صادف حياة طويلة لا موت فيها .
فيومئذ لا يعذب عذابه أحد أي يوم يكون زمان ما ذكر من الأحوال لا يعذب كعذاب الله أحد .
ولا يوثق ك وثاقه أحد أو لا يتولى عذاب الله ووثاقه أحد سواه إذ الأمر كله له ، والضميران على التقديرين في عذابه ووثاقه لله عز وجل ، وهذا على قراءة الجمهور يعذب و يوثق مبنيين للفاعل .
وقرأ على البناء للمفعول فيهما ، فيكون الضميران راجعين إلى الإنسان : أي لا يعذب كعذاب ذلك الإنسان أحد ولا يوثق كوثاقه أحد ، والمراد بالإنسان : الكافر : أي لا يعذب من ليس بكافر كعذاب الكافر ، وقيل إبليس ، وقيل المراد به الكسائي أبي بن خلف .
قال الفراء : المعنى أنه لا يعذب كعذاب هذا الكافر المعين أحد ، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال كوثاقه أحد لتناهيه في الكفر والعناد .
وقيل المعنى : أنه لا يعذب مكانه أحد ولا يوثق مكانه أحد ، فلا تؤخذ منه فدية ، وهو كقوله : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ الأنعام : 164 ] والعذاب بمعنى التعذيب ، والوثاق بمعنى التوثيق ، واختار أبو عبيد ، وأبو حاتم قراءة قال : وتكون الهاء في الموضعين ضمير الكافر ؛ لأنه معروف أنه لا يعذب أحد كعذاب الله . الكسائي ،
قال أبو علي الفارسي : يجوز أن يكون الضمير للكافر على قراءة الجماعة : أي لا يعذب أحد أحدا مثل تعذيب هذا الكافر .
ولما فرغ سبحانه من حكاية أحوال الأشقياء ذكر بعض أحوال السعداء فقال : ياأيتها النفس المطمئنة المطمئنة هي الساكنة الموقنة بالإيمان وتوحيد الله ، الواصلة إلى ثلج اليقين بحيث لا يخالطها شك ولا يعتريها ريب .
قال الحسن : هي المؤمنة الموقنة .
وقال مجاهد : الراضية بقضاء الله التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها ، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها وقال مقاتل هي الآمنة المطمئنة .
وقال ابن كيسان : المطمئنة بذكر الله ، وقيل المخلصة : قال ابن زيد : المطمئنة لأنها بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث .
ارجعي إلى ربك أي ارجعي إلى الله راضية بالثواب الذي أعطاك مرضية عنده ، وقيل ارجعي إلى موعده ، وقيل إلى أمره .
وقال عكرمة ، وعطاء : معنى ارجعي إلى ربك إلى جسدك الذي كنت فيه ، واختاره ويدل على هذا قراءة ابن جرير ، " فادخلي في عبدي " بالإفراد ، والأول أولى . ابن عباس
فادخلي في عبادي أي في زمرة عبادي الصالحين وكوني من جملتهم وانتظمي في سلكهم .
وادخلي جنتي معهم قيل إنه يقال لها ارجعي إلى ربك عند خروجها من الدنيا ، ويقال لها : ادخلي في عبادي وادخلي جنتي يوم القيامة ، والمراد بالآية كل نفس مطمئنة على العموم ، ولا ينافي ذلك نزولها في نفس معينة ، فالاعتبار بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب .
وقد أخرج ، عبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس أكلا لما قال : سفا ، وفي قوله : حبا جما قال : شديدا ، وأخرج عنه ابن جرير أكلا لما قال : شديدا .
وأخرج ، ابن جرير عنه أيضا في قوله : وابن أبي حاتم إذا دكت الأرض دكا دكا قال : تحريكها .
وأخرج مسلم ، ، والترمذي ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن مسعود . يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم ابن عباس وأنى له الذكرى يقول : وكيف له ؟ وأخرج عنه في قوله : ابن أبي حاتم فيومئذ لا يعذب الآية قال : لا يعذب بعذاب الله أحد ولا يوثق بوثاق الله أحد .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضا في قوله : ياأيتها النفس المطمئنة قال : المؤمنة ارجعي إلى ربك يقول : إلى جسدك .
قال : نزلت هذه الآية وأبو بكر جالس ، فقال : يا رسول الله ما أحسن هذا ، فقال : أما إنه سيقال لك هذا .
وأخرج ، عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية عن نحوه مرسلا . سعيد بن جبير
وأخرج في نوادر الأصول نحوه عن الحكيم الترمذي وأخرج أبي بكر الصديق ابن مردويه عن في قوله : ابن عباس ياأيتها النفس المطمئنة المصدقة .
وأخرج عنه أيضا في الآية قال : ابن جرير . ترد الأرواح يوم القيامة في الأجساد
وأخرج عنه أيضا في قوله : ابن أبي حاتم ارجعي إلى ربك راضية قال : بما أعطيت من الثواب مرضية عنها بعملها فادخلي في عبادي المؤمنين .
وأخرج ، ابن أبي حاتم عن والطبراني قال : مات سعيد بن جبير ابن عباس بالطائف ، فجاء طير لم ير على خلقته فدخل نعشه ، ثم لم ير خارجا منه ، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا ندري من تلاها ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي .
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن عكرمة مثله .