السادس : أن جمعها القراءات لم تكن متميزة عن غيرها إلا في قرن الأربعمائة ، ولم يكن متسع الرواية والرحلة كغيره ، والمراد بالقراءات السبع المنقولة عن الأئمة السبعة : أبو بكر بن مجاهد ،
[ ص: 476 ] أحدهم : مولاهم ، عبد الله بن كثير المكي القرشي أبو سعيد ، وقيل : أبو محمد ، وقيل : أبو بكر ، وقيل : أبو الصلت ، ويقال له الداري ، وهو من التابعين ، وسمع عبد الله بن الزبير وغيره ، توفي بمكة سنة عشرين ومائة ، وقيل : اثنتين وعشرين .
الثاني : هو مدني ، أصله من نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم ; مولى جعونة بن شعوب الليثي ، أصبهان ، كنيته أبو رويم ، وقيل : أبو الحسن ، وقيل : أبو عبد الرحمن ، وقيل : أبو عبد الله ، توفي بالمدينة سنة تسع وستين ومائة .
الثالث : دمشق ، وهو من كبار التابعين ، ولد في أول سنة إحدى وعشرين من الهجرة ، وتوفي عبد الله بن عامر بن يزيد بن ربيعة اليحصبي الدمشقي قاضي بدمشق يوم عاشوراء سنة ثمان عشرة ومائة ، وقيل : ولد سنة ثمان من الهجرة ، ومات وهو ابن مائة وعشر سنين ، وفي كنيته سبعة أقوال ; أصحها : أبو عمرو ، وقيل : أبو محمد ، وأبو عبد الله ، وأبو موسى ، وأبو نعيم ، وأبو عثمان ، وأبو مغيث .
الرابع : قيل : اسمه أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن عبد الله البصري ، زبان ، وقيل : يحيى ، وقيل : عثمان ، وقيل : محبوب ، وقيل : اسمه كنيته ، توفي بالكوفة سنة أربع وخمسين ومائة ، وقرأ على ابن كثير وغيره .
الخامس : - بفتح النون - عاصم بن أبي النجود أبو بكر الأسدي الكوفي ، توفي بالكوفة سنة سبع ، وقيل : ثمان وعشرين ومائة ، قال سفيان وغيرهما : وأحمد بن حنبل بهدلة هو أبو النجود ، وقال عمرو بن علي : بهدلة أمه ، قال هذا خطأ . أبو بكر بن أبي داود :
وقال عبد الله بن أحمد : قال أبي : أنا أختار قراءة عاصم .
[ ص: 477 ] السادس : توفي بحلوان سنة ثمان ، وقيل : ست وخمسين ومائة . حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزيات ، التيمي ، مولاهم ، الكوفي ، أبو عمارة ،
السابع : توفي سنة تسع وثمانين ومائة ، كان قرأ على الكسائي ، علي بن حمزة الأسدي مولاهم ، الكوفي ، حمزة ، قال : " وإنما ألحق بالسبعة في أيام المأمون ; وإنما كان السابع مكي فأثبت يعقوب الحضرمي ، ابن مجاهد في سنة ثلاثمائة أو نحوها في موضع الكسائي يعقوب .
وليس في هؤلاء السبعة من العرب إلا ابن عامر وأبو عمرو .
قال : " وإنما كانوا سبعة لوجهين : مكي
أحدهما : أن عثمان - رضي الله عنه - كتب سبعة مصاحف ، ووجه بها إلى الأمصار ، فجعل عدد القراء على عدد المصاحف .
الثاني : أنه جعل عددهم على عدد الحروف التي نزل بها القرآن وهي سبعة ، على أنه لو جعل عددهم أكثر أو أقل لم يمتنع ذلك ; إذ عدد الرواة الموثوق بهم أكثر من أن يحصى .
وقد ألف ابن جبير المقرئ - وكان قبل ابن مجاهد - كتابا في القراءات ، وسماه كتاب " الخمسة " ذكر فيه خمسة من القراء لا غير ، وألف غيره كتابا وسماه " الثمانية " ، وزاد على هؤلاء السبعة . انتهى . يعقوب الحضرمي
[ ص: 478 ] قلت : ومنهم من زاد ثلاثة ، وسماه كتاب " العشرة " .
قال : والسبب في اشتهار هؤلاء السبعة دون غيرهم أن مكي عثمان - رضي الله عنه - لما كتب المصاحف ، ووجهها إلى الأمصار ، وكان القراء في العصر الثاني والثالث كثيري العدد ، فأراد الناس أن يقتصروا في العصر الرابع على ما وافق المصحف ، فنظروا إلى إمام مشهور بالفقه ، والأمانة في النقل ، وحسن الدين ، وكمال العلم ، قد طال عمره ، واشتهر أمره ، وأجمع أهل مصر على عدالته ، فأفردوا من كل مصر وجه إليه عثمان مصحفا إماما هذه صفة قراءته على مصحف ذلك المصر ، فكان أبو عمرو من أهل البصرة ، وحمزة وعاصم من أهل الكوفة وسوادها ، من والكسائي العراق ، وابن كثير من أهل مكة ، وابن عامر من أهل الشام ، ونافع من أهل المدينة ، كلهم ممن اشتهرت إمامتهم ، وطال عمرهم في الإقراء ، وارتحل الناس إليهم من البلدان .
وأول من اقتصر على هؤلاء السبعة سنة ثلاثمائة ، وتابعه الناس . أبو بكر بن مجاهد ;
وألحق المحققون - منهم البغوي في " تفسيره " - بهؤلاء السبعة قراءة ثلاثة ، وهم يعقوب الحضرمي ، وخلف ، وأبو جعفر بن قعقاع المدني شيخ نافع ; لأنها لا تخالف رسم السبع .
[ ص: 479 ] وقال الإمام أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم الهروي في كتاب " الكافي " له : فإن قال قائل : فلم أدخلتم قراءة أبي حفص المدني في جملتهم ، وهم خارجون عن السبعة المتفق عليهم ؟ قلنا : إنما اتبعنا قراءتهما كما اتبعنا السبعة ; لأنا وجدنا قراءتهما على الشرط الذي وجدناه في قراءة غيرهما ممن بعدهما في العلم والثقة بهما ، واتصال إسنادهما ، وانتفاء الطعن عن روايتهما ، ثم إن التمسك بقراءة سبعة فقط ليس له أثر ولا سنة ، وإنما السنة أن تؤخذ القراءة إذا اتصلت روايتها نقلا وقراءة ولفظا ، ولم يوجد طعن على أحد من رواتها ، ولهذا المعنى قدمنا السبعة على غيرهم ، وكذلك نقدم ويعقوب الحضرمي أبا جعفر ويعقوب على غيرهما .
ولا يتوهم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : أنزل القرآن على سبعة أحرف انصرافه إلى قراءة سبعة من القراء يولدون [ من ] بعد عصر من الصحابة بسنين كثيرة ; لأنه يؤدي إلى أن يكون الخبر متعريا عن فائدة إلى أن يحدثوا ; ويؤدي إلى أنه لا يجوز لأحد من الصحابة أن يقرءوا إلا بما علموا أن السبعة من القراء يختارونه ، قال : وإنما ذكرناه لأن قوما من العامة يتعلقون به .
وقال الشيخ موفق الدين الكواشي : " كل ما صح سنده ، واستقام وجهه في العربية ، ووافق لفظه خط المصحف الإمام ، فهو من السبعة المنصوص عليها ، ولو رواه سبعون ألفا [ ص: 480 ] مجتمعين أو متفرقين . فهذا هو الأصل الذي بني عليه من قبول القراءات ، عن سبعة كان أو عن سبعة آلاف ، ومتى فقد واحد من هذه الثلاثة المذكورة في القراءة فاحكم بأنها شاذة ; ولا يقرأ بشيء من الشواذ ، وإنما يذكر ما يذكر من الشواذ ; ليكون دليلا على حسب المدلول عليه ، أو مرجحا .
وقال : " وقد اختار الناس بعد ذلك ، وأكثر اختياراتهم إنما هو في الحرف إذا اجتمع فيه ثلاثة أشياء : قوة وجه العربية ، وموافقته للمصحف ، واجتماع العامة عليه . والعامة عندهم ما اتفق عليه مكي أهل المدينة وأهل الكوفة ; فذلك عندهم حجة قوية توجب الاختيار . وربما جعلوا العامة ما اجتمع عليه أهل الحرمين ، وربما جعلوا الاختيار ما اتفق عليه نافع وعاصم ; فقراءة هذين الإمامين أولى القراءات ، وأصحها سندا ، وأفصحها في العربية ، ويتلوها في الفصاحة خاصة قراءة أبي عمرو . والكسائي
وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة : " كل قراءة ساعدها خط المصحف مع صحة النقل فيها ومجيئها على الفصيح من لغة العرب فهي قراءة صحيحة معتبرة ، فإن اختل أحد هذه الأركان الثلاثة أطلق على تلك القراءة أنها شاذة وضعيفة ، أشار إلى ذلك جماعة من الأئمة المتقدمين ، ونص عليه الشيخ أبو محمد مكي بن أبي طالب القيرواني في كتاب مفرد صنفه في معاني القراءات السبع ، وأمر بإلحاقه بكتاب " الكشف " ، وذكره شيخنا [ ص: 481 ] أبو الحسن في كتابه " جمال القراء " .
قال أبو شامة رحمه الله : " وقد ورد إلى دمشق استفتاء من بلاد العجم عن وعن قراءة القارئ عشرا ، كل آية بقراءة قارئ ، فأجاب عن ذلك جماعة من مشايخ عصرنا ; منهم شيخا الشافعية والمالكية حينئذ ، وكلاهما القراءة الشاذة : هل تجوز القراءة بها ؟ أبو عمرو وعثمان - يعني - ابن الصلاح وابن الحاجب .
" قال شيخ الشافعية : يشترط أن يكون المقروء به على تواتر نقله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرآنا ، واستفاض نقله بذلك ، وتلقته الأمة بالقبول كهذه القراءات السبع ; لأن المعتبر في ذلك اليقين والقطع على ما تقرر وتمهد في الأصول ; فما لم يوجد فيه ذلك ما عدا العشرة فممنوع من القراءة به منع تحريم لا منع كراهة ; في الصلاة وخارج الصلاة ، وممنوع منه ممن عرف المصادر والمعاني ، ومن لم يعرف ذلك ، وواجب على من قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقوم بواجب ذلك ، وإنما نقلها من نقلها من العلماء لفوائد فيها تتعلق بعلم العربية ، لا للقراءة بها ; هذا طريق من استقام سبيله ، ثم قال : والقراءة الشاذة ما نقل قرآنا من غير تواتر واستفاضة متلقاة بالقبول من الأئمة ، كما يشتمل عليه " المحتسب " وغيره ، وأما القراءة بالمعنى على تجويزه من غير أن ينقل قرآنا فليس ذلك من القراءة [ ص: 482 ] الشاذة أصلا ; والمتجرئ على ذلك متجرئ على عظيم ، وضال ضلالا بعيدا ، فيعزر ويمنع بالحبس ونحوه ، ويجب منع القارئ بالشواذ وتأثيمه بعد تعريفه ، وإن لم يمتنع فعليه التعزير بشرطه . وأما إذا شرع القارئ في قراءة فينبغي ألا يزال يقرأ بها ما بقي للكلام متعلق بما ابتدأ به . وما خالف هذا فمنه جائز وممتنع ، وعذره مانع من قيامه بحقه ، والعلم عند الله تعالى . لابن جني
وقال شيخ المالكية - رحمه الله - : لا يجوز أن يقرأ بالقراءة الشاذة في صلاة ولا غيرها ; عالما بالعربية كان أو جاهلا ، وإذا قرأها قارئ ; فإن كان جاهلا بالتحريم عرف به وأمر بتركها ، وإن كان عالما أدب بشرطه ، وإن أصر على ذلك أدب على إصراره ، وحبس إلى أن يرتدع عن ذلك ، وأما تبديل ( آتينا ) ( البقرة : 53 ) بـ " أعطينا " و ( سولت ) ( يوسف : 18 ) بـ " زينت " ونحوه ، فليس هذا من الشواذ ، وهو أشد تحريما ، والتأديب عليه أبلغ ، والمنع منه أوجب .
وأما القراءة بالقراءات المختلفة في آي العشر الواحد فالأولى ألا يفعل . نعم إن قرأ بقراءتين في موضع إحداهما مبنية على الأخرى مثل أن يقرأ ( نغفر لكم ) ( الأعراف : 161 ) بالنون و ( خطيئاتكم ) بالرفع ، ومثل ( إن تضل إحداهما ) بالكسر ( فتذكر ) ( البقرة : 282 ) بالنصب ، فهذا أيضا ممتنع ، وحكم المنع كما تقدم .
قال الشيخ شهاب الدين : والمنع من هذا ظاهر ، وأما ما ليس كذلك [ فلا ] منع منه ; [ ص: 483 ] فإن الجمع جائز ، والتخيير فيه بأكثر من ذلك كان حاصلا بما ثبت من إنزال القرآن على سبعة حروف توسعة على القراء ; فلا ينبغي أن يضيق بالمنع من هذا ولا ضرر فيه ، نعم أكره ترداد الآية بقراءات مختلفة كما يفعله أهل زماننا في جميع القراءات لما فيه من الابتداع ، ولم يرد فيه شيء عن المتقدمين ، وقد بلغني كراهته عن بعض متصدري المغاربة المتأخرين .
قلت : وما أفتى به الشيخان نقله النووي في " شرح المهذب " عن أصحاب فقال : " قال أصحابنا وغيرهم : لا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة ; لأنها ليست قرآنا ; لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ، والقراءة الشاذة ليست متواترة ، ومن قال غيره فغالط أو جاهل ، فلو خالف وقرأ بالشاذ أنكر عليه قراءتها في الصلاة وغيرها ، وقد اتفق فقهاء الشافعي ، بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ ، ونقل إجماع المسلمين على أنه لا تجوز القراءة بالشواذ ، ولا يصلى خلف من يقرأ بها " . ابن عبد البر