واعلم أن حيث تطرد متأكد جدا ، ومعتبر في اعتدال نسق الكلام وحسن موقعه من النفس تأثيرا عظيما ، ولذلك خرج عن نظم الكلام لأجلها في مواضع : أحدها : زيادة حرف لأجلها ، ولهذا ألحقت الألف بـ " الظنون " في قوله تعالى : ( إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل وتظنون بالله الظنونا ) ( الأحزاب : 10 ) ؛ لأن مقاطع فواصل هذه السورة ألفات منقلبة عن تنوين في الوقف ، فزيد على النون الألف لتساوي المقاطع ، وتناسب نهايات الفواصل ، ومثله : ( فأضلونا السبيلا ) ( الأحزاب : 67 ) ، ( وأطعنا الرسولا ) ( الأحزاب : 66 ) .
[ ص: 157 ] وأنكر بعض المغاربة ذلك ، وقال : ; لأن في سورة الأحزاب : ( لم تزد الألف لتناسب رءوس الآي كما قال قوم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) ( الآية : 4 ) وفيها : ( فأضلونا السبيلا ) ( الأحزاب : 67 ) ، وكل واحد منها رأس آية ، وثبتت الألف بالنسبة إلى حالة أخرى غير تلك في الثاني دون الأول ، فلو كان لتناسب رءوس الآي لثبت في الجميع .
قالوا : وإنما زيدت الألف في مثل ذلك لبيان القسمين واستواء الظاهر والباطن بالنسبة إلى حالة أخرى غير تلك ، وكذلك لحاق هاء السكت في قوله : ( ما هيه ) ( القارعة : 10 ) في سورة القارعة ، هذه الهاء عدلت مقاطع الفواصل في هذه السورة ، وكان للحاقها في هذا الموضع تأثير عظيم في الفصاحة .
وعلى هذا - والله أعلم - ينبغي أن يحمل ، نحو قوله تعالى : ( لحاق النون في المواضع التي تكلم في لحاق النون إياها وكل في فلك يسبحون ) ( يس : 40 ) ، وقوله تعالى : ( كونوا قردة خاسئين ) ( البقرة : 65 ) ، فإن من مآخذ الفصاحة ومذاهبها أن يكون ورود هذه النون في مقاطع هذه الأنحاء للآي راجح الأصالة في الفصاحة لتكون فواصل السور الوارد فيها ذلك قد استوثق فيما قبل حروفها المتطرفة وقوع حرفي المد واللين . وقوله تعالى : ( وطور سينين ) ( التين : 2 ) وهو طور سيناء ; لقوله : ( وشجرة تخرج من طور سيناء ) ( المؤمنون : 20 ) .
وقوله تعالى : ( لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ) ( يوسف : 46 ) كرر " لعل " مراعاة لفواصل الآي ; إذ لو جاء على الأصل لقال : لعلي أرجع إلى الناس فيعلموا بحذف النون على الجواب .
( الثاني ) حذف همزة أو حرف اطرادا كقوله تعالى : ( والليل إذا يسر ) ( الفجر : 4 ) .
[ ص: 158 ] ( الثالث ) وبذلك يجاب عن سؤال في قوله تعالى : ( الجمع بين المجرورات ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ) ( الإسراء : 69 ) ، فإنه قد توالت المجرورات بالأحرف الثلاثة ؛ وهي اللام في ( لكم ) والباء في ( به ) و " على " في ( علينا ) وكان الأحسن الفصل .
وجوابه أن تأخر ( تبيعا ) وترك الفصل أرجح من أن يفصل به بين بعض الروابط ، وكذلك الآيات التي تتصل بقوله : ( ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ) ( الإسراء : 69 ) ، فإن فواصلها كلها منصوبة منونة ، فلم يكن بد من تأخير قوله : ( تبيعا ) لتكون نهاية هذه الآية مناسبة لنهايات ما قبلها حتى تتناسق على صورة واحدة .
( الرابع ) كقوله تعالى : ( تأخير ما أصله أن يقدم فأوجس في نفسه خيفة موسى ) ( طه : 67 ) لأن أصله أن يتصل الفعل بفاعله ويؤخر المفعول ، لكن أخر الفاعل وهو " موسى " لأجل رعاية الفاصلة .
قلت : للتأخير حكمة أخرى ، وهي أن النفس تتشوق لفاعل ( أوجس ) فإذا جاء بعد أن أخر وقع بموقع .
وكقوله تعالى : ( ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ) ( طه : 129 ) فإن قوله : ( وأجل مسمى ) معطوف على ( كلمة ) ولهذا رفع . والمعنى : ( ولولا كلمة سبقت من ربك ) في التأخير ( وأجل مسمى ) لكان العذاب لزاما ، لكنه قدم وأخر لتشتبك رءوس الآي ; قاله ابن عطية .
وجوز عطفه على الضمير في ( لكان ) أي لكان الأجل العاجل وأجل مسمى لازمين له كما كانا لازمين الزمخشري لعاد وثمود ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأجل العاجل .
ومنه قوله تعالى : ( ولقد جاء آل فرعون النذر ) ( القمر : 41 ) فأخر الفاعل لأجل الفاصلة .
[ ص: 159 ] وقوله : ( ومما رزقناهم ينفقون ) ( البقرة : 3 ) أخر الفعل عن المفعول فيها وقدمه فيما قبلها في قوله : ( يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ) ( البقرة : 3 ) ليوافق الآي ، قاله أبو البقاء وهو أجود من قول : قدم المفعول للاختصاص . الزمخشري
ومنه تأخير الاستعانة عن العبادة في قوله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ( الفاتحة : 5 ) وهي قبل العبادة ، وإنما أخرت لأجل فواصل السورة في أحد الأجوبة .
( الخامس ) : كقوله تعالى : ( إفراد ما أصله أن يجمع إن المتقين في جنات ونهر ) ( القمر : 54 ) قال الفراء : " الأصل الأنهار ، وإنما وحد لأنه رأس آية ، فقابل بالتوحيد رءوس الآي . ويقال : النهر الضياء والسعة ، فيخرج من هذا الباب " .
وقوله : ( وما كنت متخذ المضلين عضدا ) ( الكهف : 51 ) قال في " المحكم " : أي أعضادا ، وإنما أفرد ليعدل رءوس الآي بالإفراد ، والعضد : المعين . ابن سيده
( السادس ) : كقوله تعالى : ( جمع ما أصله أن يفرد لا بيع فيه ولا خلال ) [ ص: 160 ] ( إبراهيم : 31 ) فإن المراد " ولا خلة " بدليل الآية الأخرى ، لكن جمعه لأجل مناسبة رءوس الآي .
( السابع ) : كقوله تعالى : ( تثنية ما أصله أن يفرد ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ( الرحمن : 46 ) .
قال الفراء أيضا : هذا باب مذهب العرب في تثنية البقعة الواحدة وجمعها كقوله : "
ودار لها بالرقمتين
" وقوله : " بطن المكتين " ، وأشير بذلك إلى نواحيها ، أو للإشعار بأن لها وجهين ، وأنك إذا أوصلتها ونظرت إليها يمينا وشمالا رأيت في كلتا الناحيتين ما يملأ عينك قرة وصدرك مسرة .قال : وإنما ثناهما لأجل الفاصلة رعاية للتي قبلها والتي بعدها على هذا الوزن والقوافي تحتمل في الزيادة والنقصان ما لا يحتمله سائر الكلام .
وأنكر ذلك ابن قتيبة عليه وأغلظ وقال : إنما يجوز في رءوس الآي زيادة هاء السكت أو الألف أو حذف همزة أو حرف ، فأما أن يكون الله وعد جنتين فيجعلهما جنة واحدة من أجل رءوس الآي فمعاذ الله ، وكيف هذا وهو يصفها بصفات الاثنين ، قال : ( ذواتا أفنان ) ( الرحمن : 48 ) ثم قال فيها : ( فيهما ) ( الرحمن :
) ، ولو أن قائلا قال في خزنة [ ص: 161 ] النار إنهم عشرون وإنما جعلهم الله تسعة عشر لرأس الآية ، ما كان هذا القول إلا كقول الفراء .
قلت : وكأن الملجئ للفراء إلى ذلك قوله تعالى : ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) ( النازعات : 40 - 41 ) وعكس ذلك قوله تعالى : ( فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ) ( طه : 117 ) على أن هذا قابل للتأويل ، فإن الألف واللام للعموم ، خصوصا أنه يرد على الفراء قوله : ( ذواتا أفنان ) ( الرحمن : 48 ) .
( الثامن ) : كقوله تعالى : ( تأنيث ما أصله أن يذكر كلا إنه تذكرة ) ( المدثر : 54 ) أي تذكير ، وإنما عدل إليها للفاصلة .
( التاسع ) : كقوله : ( سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق ) ( الأعلى : 1 - 2 ) قال في العلق ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) ( الآية : 1 ) فزاد في السورة الأولى : ( الأعلى ) وزاد في الثانية : ( خلق ) مراعاة للفواصل في السورتين وهي في " سبح " : ( الذي خلق فسوى ) ( 2 ) وفي " العلق " : ( خلق الإنسان من علق ) ( 2 ) .
( العاشر ) كقوله تعالى : ( صرف ما أصله ألا ينصرف قوارير قوارير ) ( الإنسان : 15 - 16 ) صرف الأول لأنه آخر الآية ، وآخر الثاني بالألف فحسن جعله منونا ليقلب تنوينه ألفا ، فيتناسب مع بقية الآي كقوله تعالى : ( سلاسلا وأغلالا ) ( الإنسان : 4 ) فإن ( سلاسلا ) لما نظم إلى ( وأغلالا وسعيرا ) صرف ونون للتناسب وبقي ( قوارير ) الثاني ; فإنه وإن لم يكن آخر الآية جاز صرفه لأنه لما نون ( ( قواريرا ) ) الأول ناسب أن ينون ( ( قواريرا ) ) الثاني ليتناسبا ، ولأجل هذا لم ينون ( ( قواريرا ) ) الثاني إلا من ينون ( ( قواريرا ) ) الأول .
وزعم في " البرهان " أن من ذلك صرف ما كان جمعا في القرآن [ ص: 162 ] ليناسب رءوس الآي كقوله تعالى : ( إمام الحرمين سلاسلا وأغلالا ) .
وهذا مردود ; لأن ( ( سلاسلا ) ) ليس رأس آية ولا ( ( قواريرا ) ) الثاني ، وإنما صرف للتناسب واجتماعه مع غيره من المنصرفات ، فيرد إلى الأصل ليتناسب معها .
ونظيره في مراعاة المناسبة أن الأفصح أن يقال " بدأ " ثلاثي ؛ قال الله تعالى : ( كما بدأكم تعودون ) ( الأعراف : 29 ) وقال تعالى : ( كيف بدأ الخلق ) ( العنكبوت : 20 ) ثم قال : ( أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده ) ( العنكبوت : 19 ) فجاء به رباعيا فصيحا لما حسنه من التناسب بغيره ، وهو قوله : ( يعيده ) .
( الحادي عشر ) كإمالة ألف ( إمالة ما أصله ألا يمال والضحى والليل إذا سجى ) ( الضحى : 1 - 2 ) ليشاكل التلفظ بهما التلفظ بما بعدهما .
والإمالة أن تنحو بالألف نحو الياء ، والغرض الأصلي منها هو التناسب ، وعبر عنه بعضهم بقوله : الإمالة للإمالة ، وقد يمال لكونها آخر مجاور ما أميل آخره ، كألف تلا في قوله تعالى : ( والقمر إذا تلاها ) ( الشمس : 2 ) فأميلت ألف تلاها ليشاكل اللفظ بها اللفظ الذي بعدها مما ألفه غير ياء نحو : ( جلاها ) ( الشمس : 3 ) و ( غشاها ) ( النجم : 54 ) .
فإن قيل : هلا جعلت إمالة ( تلاها ) لمناسبة ما قبلها ؛ أعني ( ضحاها ) ( النازعات : 29 ) قيل : لأن ألف ( ضحاها ) عن واو ، وإنما أميل لمناسبة ما بعدها .
( الثاني عشر ) : كقوله تعالى : ( العدول عن صيغة المضي إلى الاستقبال ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) ( البقرة : 87 ) حيث لم يقل وفريقا قتلتم ، كما سوى بينهما في سورة الأحزاب فقال : ( فريقا تقتلون وتأسرون فريقا ) ( الآية : 26 ) وذلك لأجل أنها هنا رأس آية .