[ ص: 126 ] النوع الثاني والثلاثون  
معرفة أحكامه   
وقد اعتنى الأئمة بذلك وأفردوه ، وأولهم   الشافعي ،  ثم تلاه من أصحابنا   إلكيا الهراسي ،  ومن الحنفية :  أبو بكر الرازي ،  ومن المالكية :  القاضي   [ ص: 127 ] إسماعيل ،  وبكر بن العلاء القشيري ،  وابن بكير ،  ومكي ،  وابن العربي ،  وابن الفرس   [ ص: 128 ]    [ وغيرهم ] ، ومن الحنابلة :  القاضي أبو يعلى الكبير     .  
 [ ص: 129 ]  [ ص: 130 ] ثم قيل : إن آيات الأحكام خمسمائة آية ، وهذا ذكره   الغزالي  وغيره ، وتبعهم  الرازي ;  ولعل مرادهم المصرح به ; فإن آيات القصص والأمثال وغيرها يستنبط منها كثير من الأحكام ، ومن أراد الوقوف على ذلك فليطالع كتاب " الإمام " للشيخ  عز الدين بن عبد السلام     .  
ثم هو قسمان : أحدهما : ما صرح به في الأحكام ; وهو كثير ، وسورة البقرة والنساء والمائدة والأنعام مشتملة على كثير من ذلك ; والثاني : ما يؤخذ بطريق الاستنباط ، ثم هو على نوعين :  
أحدهما : ما يستنبط من غير ضميمة إلى آية أخرى ، كاستنباط   الشافعي  تحريم الاستمناء باليد من قوله تعالى :  إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم      ( المؤمنون : 6 ) إلى قوله :  فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون      ( الآية : 7 ) ، واستنباط صحة      [ ص: 131 ] أنكحة الكفار من قوله تعالى :  امرأة فرعون      ( التحريم : 11 ) ،  وامرأته حمالة الحطب      ( المسد : 4 ) ونحوه ، واستنباطه عتق الأصل والفرع بمجرد الملك من قوله تعالى :  وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا   إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا      ( مريم : 92 و 93 ) ، فجعل العبودية منافية للولادة حيث ذكرت في مقابلتها ; فدل على أنهما لا يجتمعان ، واستنباطه حجية الإجماع من قوله :  ويتبع غير سبيل المؤمنين      ( النساء : 115 ) واستنباطه صحة صوم الجنب من قوله تعالى :  فالآن باشروهن      ( البقرة : 187 ) إلى قوله :  حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر      ( البقرة : 187 ) ، فدل على جواز الوقاع في جميع الليل ، ويلزم منه تأخير الغسل إلى النهار ; وإلا لوجب أن يحرم الوطء في آخر جزء من الليل بمقدار ما يقع الغسل فيه .  
والثاني : ما يستنبط مع ضميمة آية أخرى ، كاستنباط  علي   وابن عباس  رضي الله عنهما أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله تعالى :  وحمله وفصاله ثلاثون شهرا      ( الأحقاف : 15 ) مع قوله :  وفصاله في عامين      ( لقمان : 14 ) ; وعليه جرى   الشافعي  ، واحتج بها  أبو حنيفة  على أن أكثر الرضاع سنتان ونصف ( ثلاثون شهرا ) ووجهه أن الله تعالى قدر لشيئين مدة واحدة فانصرفت المدة بكمالها إلى كل واحد منهما ، فلما قام النص في أحدهما بقي الباقي على أصله ، ومثل ذلك بالأجل الواحد للمدينين ; فإنه مضروب بكماله لكل واحد منهما ، وأيضا فإنه لا بد من اعتبار مدة يبقى فيها الإنسان بحيث يتغير إلفه ، فاعتبرت مدة يعتاد الصبي فيها غذاء طبيعيا غير اللبن ، ومدة الحمل قصيرة ، فقدمت الزيادة على الحولين .  
فإن قيل : العادة الغالبة في مدة الحمل تسعة أشهر ، وكان المناسب في مقام الأسنان ذكر الأكثر المعتاد ، لا الأقل النادر ، كما في جانب الفصال .  
قلنا : لأن هذه المدة أقل مدة الحمل ، ولما كان الولد لا يعيش غالبا إذا وضع لستة أشهر ، كانت مشقة الحمل في هذه المدة موجودة لا محالة في حق كل مخاطب ، فكان ذكره      [ ص: 132 ] أدخل في باب المناسبة ، بخلاف الفصال ، لأنه لا حد لجانب القلة فيه ، بل يجوز أن يعيش الولد بدون ارتضاع من الأم ; ولهذا اعتبر فيه الأكثر ، لأنه الغالب ، ولأنه اختياري ; كأنه قيل : حملته ستة أشهر لا محالة ، إن لم تحمله أكثر .  
ومثله استنباط الأصوليين أن تارك الأمر يعاقب من قوله تعالى :  أفعصيت أمري      ( طه : 93 ) مع قوله :  ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم      ( الجن : 23 ) ، وكذلك استنباط بعض المتكلمين أن الله خالق لأفعال العباد ; من قوله تعالى :  وما تشاءون إلا أن يشاء الله      ( الدهر : 30 ) ، مع قوله تعالى :  وربك يخلق ما يشاء ويختار      ( القصص : 68 ) ; فإذا ثبت أنه يخلق ما يشاء ، وأن مشيئة العبد لا تحصل إلا إذا شاء الله ، أنتج أنه تعالى خالق لمشيئة العبد .  
				
						
						
