الأول : . الأشياء التي يجب ردها عند الإشكال إلى أصولها
فيجب رد المتشابهات في الذات والصفات إلى محكم ليس كمثله شيء ( الشورى : 11 ) .
ورد المتشابهات في الأفعال إلى قوله : قل فلله الحجة البالغة ( الأنعام : 149 ) وكذلك الآيات الموهمة نسبة الأفعال لغير الله تعالى من الشيطان والنفس ، ترد إلى محكم قوله تعالى : ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ( الأنعام : 125 ) وما كان من ذلك عن تنزل الخطاب ، أو ضرب مثال ، أو عبارة عن مكان أو زمان أو معية ، أو ما يوهم التشبيه ، فمحكم ذلك قوله : ليس كمثله شيء ( الشورى : 11 ) ، وقوله : ولله المثل الأعلى ( النحل : 60 ) ، وقوله : قل هو الله أحد ( الإخلاص : 1 ) .
ومنه ضرب في تفصيل ذكر النبوة ووصف إلقاء الوحي ، ومحكمه قوله تعالى : [ ص: 202 ] إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( الحجر : 9 ) ، وقوله : وما ينطق عن الهوى ( النجم : 3 ) .
ومنه ضرب في الحلال والحرام ، ومن ثم اختلف الأئمة في كثير من الأحكام بحسب فهمهم لدلالة القرآن .
ومنه شيء يتقارب فيه بين اللمتين : لمة الملك ولمة الشيطان لعنه الله ، ومحكم ذلك قوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان ( النحل : 90 ) الآية ، ولهذا قال عقبه : يعظكم لعلكم تذكرون ( النحل : 90 ) أي عندما يلقى العدو الذي لا يأمر بالخير بل بالشر والإلباس .
ومنه الآيات التي اختلف المفسرون فيها على أقوال كثيرة تحتملها الآية ، ولا يقطع على واحد من الأقوال ، وأن مراد الله منها غير معلوم لنا مفصلا بحيث يقطع به .
الثاني : أن هذه الآية من المتشابه - أعني قوله : وأخر متشابهات الآية ( آل عمران : 7 ) من حيث تردد الوقف فيها بين أن يكون على ( إلا الله ) وبين أن يكون على والراسخون في العلم يقولون آمنا به ( آل عمران : 7 ) وتردد الواو في ( والراسخون ) بين الاستئناف والعطف ، ومن ثم ثار الخلاف في ذلك .
فمنهم من رجح أنها للاستئناف ، وأن الوقف على ( إلا الله ) وأن الله تعبد من كتابه بما لا يعلمون - وهو المتشابه - كما تعبدهم من دينه بما لا يعقلون - وهو التعبدات - ولأن قوله : يقولون آمنا به متردد بين كونه حالا فضلة ، وخبرا عمدة ، والثاني أولى .
ومنهم من رجح أنها للعطف ; لأن الله تعالى لم يكلف الخلق بما لا يعلمون ; وضعف الأول ، لأن الله لم ينزل شيئا من القرآن إلا لينتفع به عباده ; ويدل به على معنى أراده ، فلو كان المتشابه لا يعلمه غير الله للزمنا ، ولا يسوغ لأحد أن يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلم المتشابه ; فإذا جاز أن يعرفه الرسول مع قوله : وما يعلم تأويله إلا الله ( آل عمران : 7 ) جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته ، والمفسرون من أمته . ألا ترى أن ابن [ ص: 203 ] عباس كان يقول : أنا من الراسخين في العلم ، ويقول عند قراءة قوله في أصحاب الكهف : ما يعلمهم إلا قليل ( الكهف : 22 ) أنا من أولئك القليل .
وقال مجاهد في قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ( آل عمران : 7 ) يعلمونه و يقولون آمنا به ( آل عمران : 7 ) ولو لم يكن للراسخين في العلم حظ من المتشابه إلا أن يقولوا : ( آمنا ) لم يكن لهم فضل على الجاهل ; لأن الكل قائلون ذلك ، ونحن لم نر المفسرين إلى هذه الغاية توقفوا عن شيء من القرآن ، فقالوا هو متشابه لا يعلمه إلا الله ، بل أمروه على التفسير ، حتى فسروا الحروف المقطعة .
فإن قيل : كيف يجوز في اللغة أن يعلم الراسخون ، والله يقول : والراسخون في العلم يقولون آمنا به ( آل عمران : 7 ) وإذا أشركهم في العلم انقطعوا عن قوله : ( يقولون ) لأنه ليس هنا عطف حتى يوجب للراسخين فعلين ؟ .
قلنا : إن ( يقولون ) هنا في معنى الحال كأنه قال : والراسخون في العلم قائلين آمنا ; كما قال الشاعر :
الريح تبكي شجوها والبرق يلمع في غمامه
أي لامعا .وقيل : المعنى ( يعلمون ويقولون ) فحذف واو العطف كقوله : وجوه يومئذ ناضرة ( القيامة : 22 ) والمعنى ; يقولون : علمنا وآمنا ; لأن الإيمان قبل العلم محال ; إذ لا يتصور الإيمان مع الجهل ، وأيضا لو لم يعلموها لم يكونوا من الراسخين ، ولم يقع الفرق بينهم وبين الجهال .
[ ص: 204 ] الثالث : ومن هذا الخلاف نشأ الخلاف في أنه : قال هل في القرآن شيء لا تعلم الأمة تأويله ؟ الراغب في مقدمة تفسيره : وذهب عامة المتكلمين إلى أن كل القرآن يجب أن يكون معلوما ، وإلا لأدى إلى إبطال فائدة الانتفاع به ، وحملوا قوله : ( والراسخون ) بالعطف على قوله : ( إلا الله ) ، وقوله : ( يقولون ) جملة حالية .
قال : ذهب كثير من المفسرين إلى أنه يصح أن يكون في القرآن بعض ما لا يعلم تأويله إلا الله ، قال : أنزل الله القرآن على أربعة أوجه : حلال وحرام ، ووجه لا يسع أحدا جهالته ، ووجه تعرفه العرب ، ووجه تأويل لا يعلمه إلا الله . ابن عباس
وقال بعضهم : المتشابه اسم لمعنيين :
أحدهما : لما التبس من المعنى لدخول شبهه بعضه في بعض نحو قوله : إن البقر تشابه علينا ( البقرة : 70 ) الآية .
والثاني : اسم لما يوافق بعضه بعضا ، ويصدقه قوله تعالى : كتابا متشابها مثاني ( الزمر : 23 ) الآية .
فإن كان المراد بالمتشابه في القرآن الأول ، فالظاهر أنه لا يمكنهم الوصول إلى مراده ، وإن جاز أن يطلعهم عليه بنوع من لطفه ; لأنه اللطيف الخبير . وإن كان المراد الثاني ، جاز أن يعلموا مراده .
الرابع : قيل : ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده البيان والهدى ؟
قلنا : إن كان ممن يمكن علمه فله فوائد ; منها : ليحث العلماء على النظر الموجب للعلم [ ص: 205 ] بغوامضه ، والبحث عن دقائق معانيه ، فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب ، وحذرا مما قال المشركون : إنا وجدنا آباءنا على أمة ( الزخرف : 22 ) ، وليمتحنهم ويثيبهم كما قال : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ( الروم : 27 ) الآية ، وقوله : ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( سبأ : 4 ) فنبههم على أن أعلى المنازل هو الثواب ، فلو كان القرآن كله محكما لا يحتاج إلى تأويل لسقطت المحنة ، وبطل التفاضل ، واستوت منازل الخلق ، ولم يفعل الله ذلك ، بل جعل بعضه محكما ليكون أصلا للرجوع إليه ، وبعضه متشابها يحتاج إلى الاستنباط والاستخراج ورده إلى المحكم ، ليستحق بذلك الثواب الذي هو الغرض ، وقد قال تعالى : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ( آل عمران : 142 ) .
ومنها : إظهار فضل العالم على الجاهل ، ويستدعيه علمه إلى المزيد في الطلب في تحصيله ، ليحصل له درجة الفضل ، والأنفس الشريفة تتشوف لطلب العلم وتحصيله .
وأما إن كان ممن لا يمكن علمه فله فوائد ; منها : إنزاله ابتلاء وامتحانا بالوقف فيه والتعبد بالاشتغال من جهة التلاوة وقضاء فرضها ، وإن لم يقفوا على ما فيها من المراد الذي يجب العمل به ، اعتبارا بتلاوة المنسوخ من القرآن وإن لم يجز العمل بما فيه من المحكم ، ويجوز أن يمتحنهم بالإيمان بها إن لم يقفوا على حقيقة المراد ، فيكون في هذا نوع امتحان ، وفي ذلك هدم لمذهب الاعتزال ، حيث ادعوا وجوب رعاية الأصلح .
ومنها : إقامة الحجة بها عليهم ; وذلك إنما نزل بلسانهم ولغتهم ، ثم عجزوا عن الوقوف على ما فيها مع بلاغتهم وأفهامهم ; فيدل على أن الذي أعجزهم عن الوقوف هو الذي أعجزهم عن تكرر الوقوف عليها ، وهو الله سبحانه .
الخامس : أثار بعضهم سؤالا وهو : والثاني خلاف الإجماع ، والأول ينقض أصلكم أن جميع كلامه سبحانه سواء وأنه نزل بالحكمة . هل للمحكم مزية على المتشابه بما يدل عليه ، أو هما سواء ؟
وأجاب أبو عبد الله محمد بن أحمد البكراباذي بأن المحكم كالمتشابه من [ ص: 206 ] وجه ، ويخالفه من وجه ، فيتفقان في أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع ، وأنه لا يختار القبيح ، ويختلفان في أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد ، فمن سمعه أمكنه أن يستدل به في الحال ، والمتشابه يحتاج إلى ذكر مبتدأ ونظر مجدد عند سماعه ليحمله على الوجه المطابق ; ولأن المحكم آصل ، والعلم بالأصل أسبق ، ولأن المحكم يعلم مفصلا ، والمتشابه لا يعلم إلا مجملا .
فإن قيل : إذا كان المحكم بالوضع كالمتشابه ، وقد قلتم إن من حق هذه اللغة أن يصح فيها الاحتمال ويسوغ التأويل ، فبما يميز المحكم في أنه لا بد له من مزية ، سيما والناس قد اختلفوا فيهما كاختلافهم في المذاهب ، فالمحكم عند السني متشابه عند القدري ؟
فالجواب أن الوجه الذي أوردته يلجئ إلى الرجوع إلى العقول فيما يتعلق بالتفريد والتنزيه ، فإن العلم بصحة خطابه يفتقر إلى العلم بحكمته ، وذلك يتعلق بصفاته ، فلا بد من تقدم معرفته ليصح له مخرج كلامه ، فأما في الكلام فيما يدل على الحلال والحرام فلا بد من مزية للمحكم ، وهو أن يدل ظاهره على المراد أو يقتضي بالضمانة أنه مما لا يحتمل الوجه الواحد .
وللمحكم في باب الحجاج عند غير المخالف مزية ; لأنه لا يمكن أن يبين له أنه مخالف للقرآن ، وأن ظاهر المحكم يدل على خلاف ما ذهب إليه ، وإن تمسك بمتشابه القرآن ، وعدل عن محكمه ، لما أنه تمسك بالشبه العقلية وعدل عن الأدلة السمعية ، وذلك لطف وبعث على النظر ; لأن المخالف المتدين يؤثر ذلك ليتفكر فيه ويعمل ، فإن اللغة وإن توقفت محتملة ، ففيها ما يدل ظاهره على أمر واحد ، وإن جاز صرفه إلى غيره بالدليل ، ثم يختلف ، ففيه ما يكره صرفه لاستبعاده في اللغة .