[ ص: 320 ] النوع الثاني عشر
في
nindex.php?page=treesubj&link=28864كيفية إنزاله
قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ( البقرة : 185 ) ، وقال سبحانه :
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إنا أنزلناه في ليلة القدر ( القدر : 1 ) .
واختلف في كيفية الإنزال على ثلاثة أقوال :
[ ص: 321 ] أحدهما : أنه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ، ثم نزل بعد ذلك منجما في عشرين سنة ، أو في ثلاث وعشرين ، أو خمس وعشرين على حسب الاختلاف في مدة إقامته
بمكة بعد النبوة .
والقول الثاني : أنه نزل إلى سماء الدنيا في عشرين ليلة قدر من عشرين سنة ، وقيل : في ثلاث وعشرين ليلة قدر من ثلاث وعشرين سنة ، وقيل : في خمس وعشرين ليلة قدر من خمس وعشرين سنة ، في كل ليلة ما يقدر الله سبحانه إنزاله في كل السنة ، ثم ينزل بعد ذلك منجما في جميع السنة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
والقول الثالث : أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر ، ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات .
والقول الأول أشهر وأصح ، وإليه ذهب الأكثرون ، ويؤيده ما رواه
الحاكم في " مستدركه " عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة . قال
الحاكم : صحيح على شرط الشيخين .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي في " التفسير " من جهة
حسان عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل
جبريل ينزل به على النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإسناده صحيح ،
وحسان هو ابن أبي الأشرس ، وثقه
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي وغيره .
[ ص: 322 ] وبالثاني قال
مقاتل ، والإمام
nindex.php?page=showalam&ids=14164أبو عبد الله الحليمي في " المنهاج "
والماوردي في تفسيره .
وبالثالث قال
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي وغيره .
واعلم أنه اتفق أهل السنة على أن كلام الله منزل ، واختلفوا في
nindex.php?page=treesubj&link=28860معنى الإنزال ، فقيل : معناه إظهار القرآن ، وقيل : إن الله أفهم كلامه
جبريل وهو في السماء ، وهو عال من المكان ، وعلمه قراءته ، ثم
جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان .
والتنزيل له طريقان :
أحدهما : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملائكة ، وأخذه من
جبريل .
والثاني : أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذ الرسول منه ، والأول أصعب الحالين .
ونقل بعضهم عن
السمرقندي حكاية ثلاثة أقوال في المنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو ؟
[ ص: 323 ] أحدها : أنه اللفظ والمعنى ، وأن
جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به ، وذكر بعضهم أن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ ، كل حرف منها بقدر جبل قاف ، وأن تحت كل حرف معان لا يحيط بها إلا الله - عز وجل - ، وهذا معنى قول الغزالي : " إن هذه الأحرف سترة لمعانيه " .
والثاني : أنه إنما نزل
جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعاني خاصة ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - علم تلك المعاني ، وعبر عنها بلغة العرب ، وإنما تمسكوا بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=193نزل به الروح الأمين على قلبك ( الشعراء : 193 - 194 ) .
والثالث : أن
جبريل - صلى الله عليه وسلم - إنما ألقى عليه المعنى ، وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب ، وأن أهل السماء يقرءونه بالعربية ، ثم إنه أنزل به كذلك بعد ذلك .
فإن قيل : ما السر في إنزاله جملة إلى السماء ؟ قيل فيه تفخيم لأمره ، وأمر من نزل عليه ، وذلك بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم ، ولقد صرفناه إليهم لينزله عليهم . ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت نزوله منجما بسبب الوقائع لأهبطه إلى الأرض جملة .
فإن قيل : في أي زمان نزل جملة إلى سماء الدنيا ، بعد ظهور نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - أم قبلها ؟ قلت : قال الشيخ
أبو شامة : الظاهر أنه قبلها ، وكلاهما محتمل ; فإن كان بعدها فوجه التفخيم منه ما ذكرناه ، وإن كان قبلها ففائدته أظهر وأكثر .
فإن قلت : فقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إنا أنزلناه في ليلة القدر ( القدر : 1 ) من جملة القرآن الذي نزل جملة أم لا ؟ فإن لم يكن منه فما نزل جملة ؟ وإن كان منه فما وجه صحة هذه العبارة ؟ قلت : ذكر فيه وجهين :
[ ص: 324 ] أحدهما : أن يكون معنى الكلام : ما حكمنا بإنزاله في القدر وقضائه وقدرناه في الأزل ونحو ذلك .
والثاني : أن لفظه لفظ الماضي ، ومعناه الاستقبال ، أي : ينزل جملة في ليلة مباركة هي ليلة القدر ، واختير لفظ الماضي إما لتحققه وكونه لا بد منه ; وإما لأنه حال اتصاله بالمنزل عليه يكون المضي في معناه محققا ; لأن نزوله منجما كان بعد نزوله جملة .
فإن قلت : ما السر في نزوله إلى الأرض منجما ؟ وهلا نزل جملة كسائر الكتب ؟ قلت : هذا سؤال قد تولى الله سبحانه جوابه ; فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=32وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ( الفرقان : 32 ) يعنون : كما أنزل على من قبله من الرسل ، فأجابهم الله سبحانه بقوله : كذلك أي : أنزلناه كذلك مفرقا
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=32لنثبت به فؤادك ( الفرقان : 32 ) أي لنقوي به قلبك ; فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب وأشد عناية بالمرسل إليه ، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجانب العزيز ، فحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة ، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة نزول
جبريل - عليه السلام - .
وقيل : معنى
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=32لنثبت به فؤادك لتحفظه ، فإنه - عليه السلام - كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، ففرق عليه لييسر عليه حفظه ; بخلاف غيره من الأنبياء ; فإنه كان كاتبا قارئا ، فيمكنه حفظ الجميع إذا نزل جملة .
" فإن قلت كان في القدرة إذا نزل جملة أن يحفظه النبي - صلى الله عليه وسلم - دفعة . قلت : ليس كل ممكن لازم الوقوع ، وأيضا في القرآن أجوبة عن أسئلة ; فهو سبب من أسباب تفرق النزول ; ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقا .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13428ابن فورك : قيل أنزلت التوراة جملة ; لأنها نزلت على نبي يقرأ ويكتب ، وهو
[ ص: 325 ] موسى ، وأنزل القرآن مفرقا ; لأنه أنزل غير مكتوب على نبي أمي ، وقيل : مما لم ينزل لأجله جملة واحدة أن منه الناسخ والمنسوخ ، ومنه ما هو جواب لمن يسأل عن أمور ، ومنه ما هو إنكار لما كان . انتهى .
وكان بين
nindex.php?page=treesubj&link=28864أول نزول القرآن وآخره عشرون أو ثلاث وعشرون أو خمس وعشرون سنة ، وهو مبني على الخلاف في مدة إقامته - صلى الله عليه وسلم -
بمكة بعد النبوة ، فقيل : عشر ، وقيل : ثلاث عشرة ، وقيل : خمس عشرة ، ولم يختلف في مدة إقامته
بالمدينة أنها عشر ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=1018521وكان كلما أنزل عليه شيء من القرآن أمر بكتابته ، ويقول : في مفترقات الآيات : ضعوا هذه في سورة كذا وكان يعرضه جبريل في شهر رمضان كل عام مرة ، وعام مات مرتين .
وفي " صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري " : قال
مسروق : عن
عائشة عن
فاطمة - رضي الله عنهما - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1018522أسر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة ، وأنه عارضني العام مرتين ، ولا أراه إلا حضور أجلي .
وأسنده
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في مواضع ، وقد كرر النبي - صلى الله عليه وسلم - الاعتكاف ، فاعتكف عشرين بعد أن كان يعتكف عشرا .
[ ص: 320 ] النَّوْعُ الثَّانِي عَشَرَ
فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28864كَيْفِيَّةِ إِنْزَالِهِ
قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( الْبَقَرَةِ : 185 ) ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( الْقَدْرِ : 1 ) .
وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِنْزَالِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
[ ص: 321 ] أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَزَلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً ، أَوْ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ، أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ
بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ نَزَلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي عِشْرِينَ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةٍ ، وَقِيلَ : فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِنْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَقِيلَ : فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مَا يُقَدِّرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنْزَالَهُ فِي كُلِّ السَّنَةِ ، ثُمَّ يَنْزِلُ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ ابْتُدِئَ إِنْزَالُهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ .
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْهُرُ وَأَصَحُّ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ
الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً . قَالَ
الْحَاكِمُ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ .
وَأَخْرَجَ
nindex.php?page=showalam&ids=15397النَّسَائِيُّ فِي " التَّفْسِيرِ " مِنْ جِهَةِ
حَسَّانَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=15992سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَجَعَلَ
جِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ ،
وَحَسَّانُ هُوَ ابْنُ أَبِي الْأَشْرَسِ ، وَثَّقَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15397النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ .
[ ص: 322 ] وَبِالثَّانِي قَالَ
مُقَاتِلٌ ، وَالْإِمَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=14164أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ فِي " الْمِنْهَاجِ "
وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ .
وَبِالثَّالِثِ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ ، وَاخْتَلَفُوا فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28860مَعْنَى الْإِنْزَالِ ، فَقِيلَ : مَعْنَاهُ إِظْهَارُ الْقُرْآنِ ، وَقِيلَ : إِنَّ اللَّهَ أَفْهَمَ كَلَامَهُ
جِبْرِيلَ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ ، وَهُوَ عَالٍ مِنَ الْمَكَانِ ، وَعَلَّمَهُ قِرَاءَتَهُ ، ثُمَّ
جِبْرِيلُ أَدَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ يَهْبِطُ فِي الْمَكَانِ .
وَالتَّنْزِيلُ لَهُ طَرِيقَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْخَلَعَ مِنْ صُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ ، وَأَخَذَهُ مِنْ
جِبْرِيلَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَلَكَ انْخَلَعَ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ حَتَّى يَأْخُذَ الرَّسُولُ مِنْهُ ، وَالْأَوَّلُ أَصْعَبُ الْحَالَيْنِ .
وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنِ
السَّمَرْقَنْدِيِّ حِكَايَةَ ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي الْمُنَزَّلِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا هُوَ ؟
[ ص: 323 ] أَحَدُهَا : أَنَّهُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى ، وَأَنَّ
جِبْرِيلَ حَفِظَ الْقُرْآنَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَنَزَلَ بِهِ ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَحْرُفَ الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا بِقَدْرِ جَبَلِ قَافٍ ، وَأَنَّ تَحْتَ كُلِّ حَرْفٍ مَعَانٍ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْغَزَالِي : " إِنَّ هَذِهِ الْأَحْرُفَ سُتْرَةٌ لِمَعَانِيهِ " .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِنَّمَا نَزَلَ
جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَعَانِي خَاصَّةً ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ تِلْكَ الْمَعَانِيَ ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ ، وَإِنَّمَا تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=193نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشُّعَرَاءِ : 193 - 194 ) .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ
جِبْرِيلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا أَلْقَى عَلَيْهِ الْمَعْنَى ، وَأَنَّهُ عَبَّرَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ ، وَأَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ يَقْرَءُونَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ ، ثُمَّ إِنَّهُ أُنْزِلَ بِهِ كَذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا السِّرُّ فِي إِنْزَالِهِ جُمْلَةً إِلَى السَّمَاءِ ؟ قِيلَ فِيهِ تَفْخِيمٌ لِأَمْرِهِ ، وَأَمْرِ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ بِإِعْلَامِ سُكَّانِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ أَنَّ هَذَا آخِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ لِأَشْرَفِ الْأُمَمِ ، وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ إِلَيْهِمْ لِيُنْزِلَهُ عَلَيْهِمْ . وَلَوْلَا أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ اقْتَضَتْ نُزُولَهُ مُنَجَّمًا بِسَبَبِ الْوَقَائِعِ لَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ جُمْلَةً .
فَإِنْ قِيلَ : فِي أَيِّ زَمَانٍ نَزَلَ جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ، بَعْدَ ظُهُورِ نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ قَبْلَهَا ؟ قُلْتُ : قَالَ الشَّيْخُ
أَبُو شَامَةَ : الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَبْلَهَا ، وَكِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ ; فَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا فَوَجْهُ التَّفْخِيمِ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا فَفَائِدَتُهُ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ .
فَإِنْ قُلْتَ : فَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( الْقَدْرِ : 1 ) مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ جُمْلَةً أَمْ لَا ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَمَا نَزَلَ جُمْلَةً ؟ وَإِنْ كَانَ مِنْهُ فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ ؟ قُلْتُ : ذَكَرَ فِيهِ وَجْهَيْنِ :
[ ص: 324 ] أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ : مَا حَكَمْنَا بِإِنْزَالِهِ فِي الْقَدْرِ وَقَضَائِهِ وَقَدَّرْنَاهُ فِي الْأَزَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْمَاضِي ، وَمَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالُ ، أَيْ : يَنْزِلُ جُمْلَةً فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، وَاخْتِيرَ لَفْظُ الْمَاضِي إِمَّا لِتَحَقُّقِهِ وَكَوْنِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ ; وَإِمَّا لِأَنَّهُ حَالَ اتِّصَالِهِ بِالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ يَكُونُ الْمُضِيُّ فِي مَعْنَاهُ مُحَقَّقًا ; لِأَنَّ نُزُولَهُ مُنَجَّمًا كَانَ بَعْدَ نُزُولِهِ جُمْلَةً .
فَإِنْ قُلْتَ : مَا السِّرُّ فِي نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ مُنَجَّمًا ؟ وَهَلَّا نَزَلَ جُمْلَةً كَسَائِرِ الْكُتُبِ ؟ قُلْتُ : هَذَا سُؤَالٌ قَدْ تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَوَابَهُ ; فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=32وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ( الْفُرْقَانِ : 32 ) يَعْنُونَ : كَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ : كَذَلِكَ أَيْ : أَنْزَلْنَاهُ كَذَلِكَ مُفَرَّقًا
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=32لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ( الْفُرْقَانِ : 32 ) أَيْ لِنُقَوِّيَ بِهِ قَلْبَكَ ; فَإِنَّ الْوَحْيَ إِذَا كَانَ يَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ كَانَ أَقْوَى لِلْقَلْبِ وَأَشَدَّ عِنَايَةً بِالْمُرْسَلِ إِلَيْهِ ، وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كَثْرَةَ نُزُولِ الْمَلَكِ إِلَيْهِ وَتَجْدِيدَ الْعَهْدِ بِهِ وَبِمَا مَعَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ الْوَارِدَةِ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ الْعَزِيزِ ، فَحَدَثَ لَهُ مِنَ السُّرُورِ مَا تَقْصُرُ عَنْهُ الْعِبَارَةُ ، وَلِهَذَا كَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ لِكَثْرَةِ نُزُولِ
جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - .
وَقِيلَ : مَعْنَى
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=32لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ لِتَحْفَظَهُ ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ ، فَفُرِّقَ عَلَيْهِ لِيُيَسَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُهُ ; بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ; فَإِنَّهُ كَانَ كَاتِبًا قَارِئًا ، فَيُمْكِنُهُ حِفْظُ الْجَمِيعِ إِذَا نُزِّلَ جُمْلَةً .
" فَإِنْ قُلْتَ كَانَ فِي الْقُدْرَةِ إِذَا نُزِّلَ جُمْلَةً أَنْ يَحْفَظَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُفْعَةً . قُلْتُ : لَيْسَ كُلُّ مُمْكِنٍ لَازِمَ الْوُقُوعِ ، وَأَيْضًا فِي الْقُرْآنِ أَجْوِبَةٌ عَنْ أَسْئِلَةٍ ; فَهُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ تَفَرُّقِ النُّزُولِ ; وَلِأَنَّ بَعْضَهُ مَنْسُوخٌ وَبَعْضَهُ نَاسِخٌ ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا أُنْزِلَ مُفَرَّقًا .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13428ابْنُ فُورَكٍ : قِيلَ أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ جُمْلَةً ; لِأَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى نَبِيٍّ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ ، وَهُوَ
[ ص: 325 ] مُوسَى ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ مُفَرَّقًا ; لِأَنَّهُ أُنْزِلَ غَيْرَ مَكْتُوبٍ عَلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ ، وَقِيلَ : مِمَّا لَمْ يَنْزِلْ لِأَجْلِهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً أَنَّ مِنْهُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ ، وَمِنْهُ مَا هُوَ جَوَابٌ لِمَنْ يَسْأَلُ عَنْ أُمُورٍ ، وَمِنْهُ مَا هُوَ إِنْكَارٌ لِمَا كَانَ . انْتَهَى .
وَكَانَ بَيْنَ
nindex.php?page=treesubj&link=28864أَوَّلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَآخِرِهِ عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ أَوْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ، فَقِيلَ : عَشْرٌ ، وَقِيلَ : ثَلَاثَ عَشْرَةَ ، وَقِيلَ : خَمْسَ عَشْرَةَ ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ
بِالْمَدِينَةِ أَنَّهَا عَشْرٌ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=1018521وَكَانَ كُلَّمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ ، وَيَقُولُ : فِي مُفْتَرِقَاتِ الْآيَاتِ : ضَعُوا هَذِهِ فِي سُورَةِ كَذَا وَكَانَ يَعْرِضُهُ جِبْرِيلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً ، وَعَامَ مَاتَ مَرَّتَيْنِ .
وَفِي " صَحِيحِ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ " : قَالَ
مَسْرُوقٌ : عَنْ
عَائِشَةَ عَنْ
فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1018522أَسَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيَّ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ ، وَأَنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ ، وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حُضُورُ أَجْلِي .
وَأَسْنَدَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ ، وَقَدْ كَرَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاعْتِكَافَ ، فَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَعْتَكِفُ عَشْرًا .