الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=950729إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت رواه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري .
هذا الحديث خرجه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من رواية nindex.php?page=showalam&ids=17152منصور بن المعتمر عن nindex.php?page=showalam&ids=15883ربعي بن خراش ، عن أبي مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأظن مسلما لم يخرجه ، لأنه قد رواه قوم ، فقالوا : عن ربعي ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فاختلف في إسناده ، لكن أكثر الحفاظ حكموا بأن القول قول من قال : عن أبي مسعود ، منهم nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، وأبو زرعة الرازي ، nindex.php?page=showalam&ids=14269والدارقطني وغيرهم ، ويدل على صحة ذلك [ ص: 497 ] أنه قد روي من وجه آخر عن أبي مسعود من رواية مسروق عنه .
وخرجه nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني من حديث أبي الطفيل عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا .
فقوله صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=950730إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى يشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين ، وأن الناس تداولوه بينهم ، وتوارثوه عنهم قرنا بعد قرن ، وهذا يدل على أن النبوات المتقدمة جاءت بهذا الكلام ، وأنه اشتهر بين الناس حتى وصل إلى أول هذه الأمة . وفي بعض الروايات قال : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950731لم يدرك الناس من كلام النبوة الأولى إلا هذا " . خرجها nindex.php?page=showalam&ids=15768حميد بن زنجويه وغيره .
وقوله " nindex.php?page=hadith&LINKID=950732إذا لم تستحي فاصنع ما شئت " في معناه قولان : أحدهما : أنه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما شاء ، ولكنه على معنى الذم والنهي عنه ، وأهل هذه المقالة لهم طريقان :
والطريق الثاني : أنه أمر ، ومعناه الخبر ، والمعنى : أن من لم يستحي ، صنع ما شاء ، فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء ، فمن لم يكن له حياء ، انهمك في كل فحشاء ومنكر ، وما يمتنع من مثله من له حياء على حد قوله صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=950734من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ، فإن لفظه لفظ الأمر ، ومعناه الخبر ، وأن من كذب عليه تبوأ مقعده من النار ، وهذا اختيار nindex.php?page=showalam&ids=12074أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله ، وابن قتيبة nindex.php?page=showalam&ids=17032ومحمد بن نصر المروزي ، وغيرهم ، وروى أبو داود عن nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ما يدل على مثل هذا القول .
وروى nindex.php?page=showalam&ids=16457ابن أبي لهيعة عن nindex.php?page=showalam&ids=12128أبي قبيل ، عن nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950735إذا أبغض الله عبدا ، نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء ، لم تلقه إلا بغيضا متبغضا ، ونزع منه الأمانة ، فإذا نزع منه الأمانة ، نزع منه الرحمة ، وإذا نزع منه الرحمة ، نزع منه ربقة الإسلام ، فإذا نزع منه ربقة الإسلام ، لم تلقه إلا شيطانا مريدا " . خرجه nindex.php?page=showalam&ids=15768حميد بن زنجويه ، وخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه بمعناه بإسناد ضعيف عن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر مرفوعا أيضا .
وعن nindex.php?page=showalam&ids=23سلمان الفارسي قال : إن الله إذا أراد بعبد هلاكا ، نزع منه الحياء ، فإذا [ ص: 499 ] نزع منه الحياء ، لم تلقه إلا مقيتا ممقتا ، فإذا كان مقيتا ممقتا ، نزع منه الأمانة ، فلم تلقه إلا خائنا مخونا ، فإذا كان خائنا مخونا ، نزع منه الرحمة ، فلم تلقه إلا فظا غليظا ، فإذا كان فظا غليظا ، نزع ربق الإيمان من عنقه ، فإذا نزع ربق الإيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطانا لعينا ملعنا .
وعن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : الحياء والإيمان في قرن ، فإذا نزع الحياء ، تبعه الآخر . خرجه كله nindex.php?page=showalam&ids=15768حميد بن زنجويه في كتاب " الأدب " .
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=treesubj&link=19527الحياء من الإيمان كما في " الصحيحين " عن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر أن nindex.php?page=hadith&LINKID=950736النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول : إنك لتستحيي ، كأنه يقول : قد أضر بك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعه فإن الحياء من الإيمان . [ ص: 500 ] وفي " الصحيحين " عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950737الحياء شعبة من الإيمان " .
وفي " الصحيحين " عن nindex.php?page=showalam&ids=40عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950738الحياء لا يأتي إلا بخير وفي رواية لمسلم قال : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950739الحياء خير كله " ، أو قال : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950740الحياء كله خير " .
وخرج nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي من nindex.php?page=hadith&LINKID=950741حديث الأشج العصري قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن فيك لخلقين يحبهما الله " ، قلت : ما هما ؟ قال : " الحلم والحياء " قلت : أقديما كان أو حديثا ؟ قال " بل قديما " قلت : الحمد لله الذي جعلني على خلقين يحبهما الله .
وقال : nindex.php?page=showalam&ids=12428إسماعيل بن أبي خالد دخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل فاستسقى ، فأتى بماء فشرب ، فستره النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذا ؟ قال : [ ص: 501 ] " الحياء خلة أوتوها ومنعتموها " .
واعلم أن nindex.php?page=treesubj&link=19529الحياء نوعان : أحدهما : ما كان خلقا وجبلة غير مكتسب ، وهو من أجل الأخلاق التي يمنحها الله العبد ويجبله عليها ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950738الحياء لا يأتي إلا بخير " فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق ، ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها ، فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار ، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : من استحيا ، اختفى ، ومن اختفى ، اتقى ، ومن اتقى وقي .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=13983الجراح بن عبد الله الحكمي - وكان فارس أهل الشام - : تركت الذنوب حياء أربعين سنة ، ثم أدركني الورع . وعن بعضهم قال : رأيت المعاصي نذالة ، فتركتها مروءة فاستحالت ديانة .
النوع الثاني : ما كان مكتسبا من معرفة الله ، ومعرفة عظمته وقربه من عباده ، واطلاعه عليهم ، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فهذا من أعلى خصال الإيمان ، بل هو من أعلى درجات الإحسان ، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : " استحي من الله كما تستحيي رجلا من صالح عشيرتك " .
وفي حديث nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950743الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وأن تذكر الموت والبلى ؛ ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا ، فمن فعل ذلك ، فقد استحيا من الله " خرجه nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي مرفوعا . [ ص: 502 ] وقد يتولد من الله الحياء من مطالعة نعمه ورؤية التقصير في شكرها ، فإذا سلب العبد الحياء المكتسب والغريزي ، لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح ، والأخلاق الدنيئة ، فصار كأنه لا إيمان له . وقد روي من مراسيل الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الحياء حياءان : طرف من الإيمان ، والآخر عجز " ولعله من كلام الحسن ، وكذلك قال nindex.php?page=showalam&ids=15545بشير بن كعب العدوي nindex.php?page=showalam&ids=40لعمران بن حصين : إنا نجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقارا لله ، ومنه ضعف ، فغضب عمران وقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه ؟ والأمر كما قاله عمران رضي الله عنه ، فإن nindex.php?page=treesubj&link=19526الحياء الممدوح في كلام النبي صلى الله عليه وسلم إنما يريد به الخلق الذي يحث على فعل الجميل ، وترك القبيح ، فأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده ، فليس هو من الحياء ، إنما هو ضعف وخور ، وعجز ومهانة ، والله أعلم . [ ص: 503 ] والقول الثاني : في معنى قوله : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950732إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت " أنه أمر بفعل ما يشاء على ظاهر لفظه ، وأن المعنى : إذا كان الذي تريد فعله مما لا يستحيا من فعله لا من الله ولا من الناس ، لكونه من أفعال الطاعات ، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة ، فاصنع منه حينئذ ما شئت ، وهذا قول جماعة من الأئمة ، منهم إسحاق المروزي الشافعي ، وحكي مثله عن nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، ووقع كذلك في بعض نسخ " مسائل أبي داود " المختصرة عنه ، ولكن الذي في النسخ المعتمدة التامة كما حكيناه عنه من قبل ، وكذلك حكاه عنه الخلال في كتاب " الأدب " ، ومن هذا قول بعض السلف - وقد سئل عن المروءة - فقال : أن لا تعمل في السر شيئا تستحيي منه في العلانية ، وسيأتي قول النبي صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=950745الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .
وروى عبد الرازق في كتابه عن معمر عن أبي إسحاق عن رجل من مزينة قال : قيل : يا رسول الله ، nindex.php?page=treesubj&link=19509ما أفضل ما أوتي الرجل المسلم ؟ قال : " الخلق الحسن " قال : فما شر ما أوتي المسلم ؟ قال : " إذا كرهت أن يرى عليك شيء في نادي القوم ، فلا تفعله إذا خلوت " .
وفي " صحيح nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان " عن أسامة بن شريك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كره منك شيئا ، فلا تفعله إذا خلوت " .
وخرج nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني من nindex.php?page=hadith&LINKID=950746حديث أبي مالك الأشعري قال : قلت : يا رسول الله [ ص: 504 ] ما تمام البر ؟ قال : " أن تعمل في السر عمل العلانية " . وخرجه أيضا من حديث أبي عامر السكوني ، قال : قلت : يا رسول الله ، فذكره .
وروى nindex.php?page=showalam&ids=16390عبد الغني بن سعيد الحافظ في كتاب " أدب المحدث " بإسناده عن حرملة بن عبد الله ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأزداد من العلم ، فقمت بين يديه ، فقلت : يا رسول الله ، ما تأمرني أن أعمل به ؟ قال : " ائت المعروف ، واجتنب المنكر ، وانظر الذي سمعته أذنك من الخير يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم فأته ، وانظر الذي تكره أن يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم ، فاجتنبه " قال : فنظرت فإذا هما أمران لم يتركا شيئا : nindex.php?page=treesubj&link=24661إتيان المعروف ، واجتناب المنكر .
وخرج ابن سعد في " طبقاته " بمعناه .
وحكى أبو عبيد في معنى الحديث قولا آخر حكاه عن جرير : قال معناه أن يريد الرجل أن يعمل الخير ، فيدعه حياء من الناس كأنه يخاف الرياء ، يقول : فلا يمنعنك الحياء من المضي لما أردت ، كما جاء في الحديث : " إذا جاءك الشيطان وأنت تصلي ، فقال : إنك ترائي ، فزدها طولا " ثم قال أبو عبيد : وهذا [ ص: 505 ] الحديث ليس يجيء سياقه ولا لفظه على هذا التفسير ، ولا على هذا يحمله الناس .
قلت : لو كان على ما قاله جرير ، لكان لفظ الحديث : إذا استحييت مما لا يستحيا منه ، فافعل ما شئت ، ولا يخفى بعد هذا من لفظ الحديث ومعناه ، والله أعلم .