[  اختيار الشيوخ والرحلة للحديث      ] :  
( وابدأ بـ ) أخذ ( عوالي ) شيوخ ( مصركا ) ، ولا تنفك عن ملازمتهم والعكوف عليهم حتى تستوفيها ، ( و ) ابدأ منها بـ ( ما يهم ) بضم أوله ، من ذلك وغيره ; كالمروي الذي انفرد به بعضهم ، فمن شغل نفسه - كما قال  أبو عبيدة     - بغير المهم أضر بالمهم .  
وإن استوى جماعة في السند وأردت الاقتصار على أحدهم فالأولى أن تتخير المشهور منهم بالطلب ، والمشار إليه من بينهم بالإتقان فيه والمعرفة له ، فإن تساووا في ذلك أيضا فتخير الأشراف وذوي الأنساب منهم ; لحديث : (  قدموا  قريشا   ولا      [ ص: 276 ] تقدموها     ) ، فإن تساووا في ذلك فالأسن ; لحديث : (  كبر كبر     ) .  
( ثم ) بعد استيفائك أخذ ما ببلدك من المروي ، وتمهرك في المعرفة به ، واستيعابك باقي الشيوخ ممن قنعت عما عندهم من المروي بغيرهم بالأخذ عنهم لما قل ، بحيث لا يفوتك من كل من مرويها وشيوخها أحد ، وأخذ الفن عن الحافظ العارف به منهم ، ( شد الرحلا ) ، أو اركب البحر حيث غلبت السلامة فيه ، أو امش حيث استطعت بلا مزيد مشقة ، ( لغيره ) ; أي : لغير مصرك من البلدان والقرى ; لتجمع بين الفائدتين من علو الإسنادين ، وعلم الطائفتين .  
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : (  أعلم الناس من يجمع علم الناس إلى علمه ، وكل صاحب علم غرثان     ) .  
وعن بعضهم قال : من قنع بما عنده لم يعرف سعة العلم . وعن   ابن معين  قال : أربعة لا تؤنس منهم رشدا ، وذكر منهم : رجل يكتب في بلده ولا يرحل .  وسأل  عبد الله بن أحمد  أباه : هل ترى لطالب العلم أن يلزم رجلا عنده علم فيكتب عنه ، أو يرحل إلى المواضع التي فيها العلم فيسمع فيها ؟ قال : يرحل فيكتب عن الكوفيين والبصريين وأهل  المدينة   ومكة   ، يشام الناس يسمع منهم     .  
وقيل  لأحمد  أيضا : أيرحل الرجل في طلب العلم ؟ فقال : بلى والله شديدا ، لقد كان  علقمة   [ ص: 277 ] والأسود  يبلغهما الحديث عن  عمر  فلا يقنعهما حتى يخرجا إليه فيسمعانه منه     . وهذا على وجه الاستحباب ، وهو متأكد إذا علمت أن ثم من المروي ما ليس ببلدك مطلقا أو مقيدا بالعلو ونحوه .  
بل قد يجب إذا كان في واجب الأحكام وشرائع الإسلام ، ولم يتم التوصل إليه إلا به ، فالوسائل تابعة للمقاصد كما صرح به   القاضي عياض  في ذلك ، وفي الاشتغال بعلوم هذا الشأن . ويروى أنه صلى الله عليه وسلم قال : (  اطلبوا العلم ولو بالصين ; فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم     ) . وعن  أبي مطيع معاوية بن يحيى  قال : أوحى الله عز وجل إلى  داود   عليه السلام أن اتخذ نعلين من حديد ، وعصى من حديد ، واطلب العلم حتى تنكسر العصى وتنخرق النعلان .  
وقال  الفضل بن غانم  في بعض الأحاديث : والله لو رحلتم في طلبه إلى  البحرين   لكان قليلا . وقصة  موسى   عليه السلام في لقاء  الخضر  ، بل قوله تعالى :  فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون    [ ص: 278 ] من شواهده .  
وكفى بقوله صلى الله عليه وسلم : (  من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة     ) ترغيبا في ذلك . وعن   ابن عباس  في قوله : السائحون ، قال : هم طلبة العلم . وقال   إبراهيم بن أدهم     : إن الله يدفع عن هذه الأمة البلاء برحلة أصحاب الحديث .  
وقال   زكريا بن عدي     : رأيت   ابن المبارك  في النوم ، فقلت له : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي برحلتي في الحديث . إلى غير هذا بما أودعه  الخطيب  في جزء له في ذلك قد قرأته .  
ورحل   جابر بن عبد الله  إلى  عبد الله بن أنيس  رضي الله عنهما مسيرة شهر في حديث واحد ، وكذا رحل غيره في حديث واحد . وقال   أبو قلابة     : لقد أقمت  بالمدينة   ثلاثة أيام ، ما لي حاجة إلا رجل عنده حديث يقدم فأسمعه منه .  
وقال      [ ص: 279 ]  الشعبي  في مسألة : كان الرجل يرحل فيما دونها إلى  المدينة      .  وقال   ابن مسعود     : لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني لرحلت إليه     .  وقال  أبو العالية     : كنا نسمع عن الصحابة فلا نرضى حتى خرجنا إليهم فسمعنا منهم     .  
ولم يزل السلف والخلف من الأئمة يعتنون بالرحلة . والقول الذي حكاه   الرامهرمزي  في ( الفاصل ) عن بعض الجهلة في عدم جوازها شاذ مهجور .  
وقد اقتفيت ولله الحمد أثرهم في ذلك بعد موت من كانت الرحلة إليه من سائر الأقطار كالواجبة ، وهو شيخنا رحمه الله ، وأدركت في الرحلة بقايا من المعتبرين ، وما بقي في ذلك من سنين إلا مجرد الاسم بيقين .  
وحيث وجد ورحلت فبادر فيها للقاء من يخشى فوته ، ولا تتوان فتندم كما اتفق لغير واحد من الحفاظ في موت بعض من قصدوه بالرحلة بعد الوصول إلى بلده ، واقتد   بالحافظ السلفي الأصفهاني     ; فإنه ساعة وصوله إلى  بغداد   لم يكن له شغل إلا المضي   لأبي الخطاب ابن البطر  ، هذا مع علته بدماميل كانت في مقعدته من الركوب ، بحيث صار يقرأ عليه وهو متكئ ; للخوف من فقده ; لكونه كان المرحول إليه من الآفاق في الإسناد .  
ولما رحل شيخنا إلى البلاد الشامية قصد الابتداء  ببيت المقدس      ; ليأخذ عن  ابن الحافظ العلائي  سنن   ابن ماجه     ; لكونه سمعه على  الحجار   ، فبلغه - وهو  بالرملة      - موته ، فعرج عنه إلى  دمشق      ; لكونها      [ ص: 280 ] بعد فواته أهم .  
وقد أورد الإمام  أحمد  في مسنده عن   عبد بن حميد  حديثا ، ثم قال : قال عبد : قال  محمد بن الفضل     : سألت   يحيى بن معين  عن هذا الحديث أول ما جلس إلي ، فقال : ثنا به   حماد بن سلمة  ، فقال : لو كان من كتابك ، فقمت لأخرج كتابي ، فقبض على ثوبي ثم قال : أمله علي ; فإني أخاف أن لا ألقاك ، قال : فأمليته عليه ، ثم أخرجت كتابي فقرأته عليه .  
واحذر من  المبالغة في المبادرة   بحيث ترتكب ما لا يجوز ، فربما يكون ذلك سببا للحرمان ، فقد حكي أن بعضهم وافى  البصرة   ليسمع من  شعبة  ويكثر عنه ، فصادف المجلس قد انقضى ، وانصرف  شعبة  إلى منزله ، فبادر إلى المجيء إليه فوجد الباب مفتوحا ، فحمله الشره على أن دخل بغير استئذان ، فرآه جالسا على البالوعة يبول ، فقال له : السلام عليكم ، رجل غريب قدمت من بلد بعيد تحدثني بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاستعظم  شعبة  هذا ، وقال : يا هذا دخلت منزلي بغير إذني ، وتكلمني وأنا على مثل هذا الحال ، تأخر عني حتى أصلح من شأني ، فلم يفعل واستمر في الإلحاح ،  وشعبة  ممسك ذكره بيده ليستبرئ ، فلما أكثر قال له : اكتب : ثنا   منصور بن المعتمر  ، عن   ربعي بن حراش  ، عن  أبي مسعود  ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (  إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت     ) ، ثم قال :      [ ص: 281 ] والله لا أحدثك بغيره ، ولا حدثت قوما تكون فيهم ، انتهى .  
واسلك ما سلكته في بلدك من الابتداء بالأهم فالأهم ، ولا تكن كمن رحل من  الشام   إلى  مصر   فقرأ بها على مسند الوقت  العز بن الفرات  الذي انفرد بما لا يشاركه فيه في سائر الآفاق غيره ( الأدب المفرد )   للبخاري  بإجازته من  العز بن جماعة  لسماعه من أبيه  البدر  ، مع كون في مسندي  القاهرة   من سمعه على من سمعه على  البدر  ، بل وكذا في بلده التي رحل منها .  
ولا يتشاغل في الغربة إلا بما تحق الرحلة لأجله ، فشهوة السماع - كما قال  الخطيب     - لا تنتهي ، والنهمة من الطلب لا تنقضي ، والعلم كالبحار المتعذر كيلها ، والمعادن التي لا ينقطع نيلها .  
كل ذلك مع مصاحبتك  التحري في الضبط   ، فلا تقلد إلا الثقات ، ( ولا تساهل حملا ) ; أي : ولا تتساهل في الحمل والسماع بحيث تخل بما عليك في ذلك ، فالمتساهل مردود كما تقدم في الفصل الثاني عشر من معرفة من تقبل روايته ومن ترد .  
				
						
						
