[  مسألة الاحتجاج بالحسن      ] إذا علم هذا ، فقد قال  الخطابي  متصلا بتعريفه السابق ; لكونه متعلقا به في الجملة ، لا أنه تتمته : وعليه - أي : الحسن - مدار أكثر الحديث - أي : بالنظر لتعدد الطرق - فإن غالبها لا يبلغ رتبة الصحيح المتفق عليه .  
 [ ص: 93 ] ونحوه قول  البغوي     : أكثر الأحكام ثبوتها بطريق حسن ، ثم قال  الخطابي     : ( والفقهاء كلهم ) وهو وإن عبر بعامتهم ، فمراده كلهم ( يستعمله ) أي : في الاحتجاج والعمل في الأحكام وغيرها ( والعلماء ) من المحدثين والأصوليين ( الجل ) أي : المعظم ( منهم يقبله ) فيهما .  
وممن خالف في ذلك من أئمة الحديث   أبو حاتم الرازي     ; فإنه سئل عن حديث فحسنه ، فقيل له : أتحتج به ؟ فقال : إنه حسن ، فأعيد السؤال مرارا ، وهو لا يزيد على قوله : إنه حسن .  
ونحوه أنه سئل عن   عبد ربه بن سعيد  ، فقال : إنه لا بأس به ، فقيل له : أتحتج بحديثه ؟ فقال : هو حسن الحديث ، ثم قال : الحجة  سفيان  وشعبة     . وهذا يقتضي عدم الاحتجاج به .  
والمعتمد الأول ( وهو ) أي الحسن لذاته عند الجمهور ، وكذا لغيره كما اقتضاه النظم ( بأقسام الصحيح ملحق حجية ) أي : في الاحتجاج ( وإن يكن ) كما أشار إليه   ابن الصلاح     ( لا يلحق ) الصحيح في الرتبة : [ إما لضعف راويه ، أو انحطاط ضبطه ، بل المنحط لا ينكر مدرجه في الصحيح أنه دونه .  
وكذا قال   ابن الصلاح     ; فهذا اختلاف إذن في العبارة دون المعنى ، ثم إن ما اقتضاه النظم يمكن التمسك له بظاهر قول   ابن الجوزي  متصلا بتعريفه ، ويصلح للعمل به وهو كذلك ، لكن فيما تكثر طرقه ] .  
 [ ص: 94 ] وقد قال  النووي  رحمه الله في بعض الأحاديث : وهذه وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة ، فمجموعها يقوي بعضه بعضا ، ويصير الحديث حسنا ويحتج به ، وسبقه  البيهقي  في تقوية الحديث بكثرة الطرق الضعيفة .  
وظاهر كلام  أبي الحسن بن القطان  يرشد إليه ، فإنه قال : هذا القسم لا يحتج به كله ، بل يعمل به في فضائل الأعمال ، ويتوقف عن العمل به في الأحكام ، إلا إذا كثرت طرقه ، أو عضده اتصال عمل ، أو موافقة شاهد صحيح ، أو ظاهر القرآن . واستحسنه شيخنا .  
وصرح في موضع آخر بأن  الضعيف الذي ضعفه ناشئ عن سوء حفظه ، إذا كثرت طرقه ، ارتقى إلى مرتبة الحسن   ، ولكنه متوقف في شمول الحسن المسمى بالصحيح عند من لا يفرق بينهما لهذا .  
وكلام  ابن دقيق العيد  أيضا يشير إلى التوقف في إطلاق الاحتجاج بالحسن ، وذلك أنه قال في الاقتراح ، إن ههنا أوصافا يجب معها قبول الرواية ، إذا وجدت في الراوي ، فإما أن يكون هذا الحديث المسمى بالحسن مما قد وجدت فيه هذه الصفات على أقل الدرجات التي يجب معها القبول أو لا ، فإن وجدت فذلك صحيح ، وإن لم توجد فلا يجوز الاحتجاج به وإن سمي حسنا ، اللهم إلا أن يرد هذا إلى أمر اصطلاحي .  
وهو أن يقال : إن  الصفات التي يجب معها قبول الرواية لها مراتب ودرجات   ، فأعلاها هو الصحيح ، وكذلك أوسطها ، وأدناها الحسن ، وحينئذ يرجع      [ ص: 95 ] الأمر في ذلك إلى الاصطلاح ، ويكون الكل صحيحا في الحقيقة .  
والأمر في الاصطلاح قريب ، لكن من أراد هذه الطريقة ، فعليه أن يعتبر ما سماه أهل الحديث حسنا ، وتحقق وجود الصفات التي يجب معها قبول الرواية في تلك الأحاديث .  
قلت : قد وجد إطلاقه على المنكر ، قال   ابن عدي  في ترجمة  سلام بن سليمان المدائني     : حديثه منكر ، وعامته حسان ، إلا أنه لا يتابع عليه .  
وقيل  لشعبة     : لأي شيء لا تروي عن   عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي  ، وهو حسن الحديث ؟ فقال : من حسنه فررت .  
وكأنهما أرادا المعنى اللغوي ، وهو حسن المتن ، وربما أطلق على الغريب ، قال   إبراهيم النخعي     : كانوا إذا اجتمعوا كرهوا أن يخرج الرجل حسان حديثه ، فقد قال  ابن السمعاني     : إنه عنى الغرائب .  
ووجد   للشافعي  إطلاقه في المتفق على صحته ،  ولابن المديني  في الحسن لذاته ،   وللبخاري  في الحسن لغيره ، ونحوه - فيما يظهر - قول   أبي حاتم الرازي     : فلان مجهول ، والحديث الذي رواه حسن .  
وقول  إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني  في  الطلحي     : إنه ضعيف الحديث مع حسنه ، على أنه يحتمل      [ ص: 96 ] إرادتهما المعنى اللغوي أيضا .  
وبالجملة   فالترمذي  هو الذي أكثر من التعبير بالحسن ، ونوه بذكره ; كما قاله   ابن الصلاح  ، ولكن حيث ثبت اختلاف صنيع الأئمة في إطلاقه ، فلا يسوغ  إطلاق القول بالاحتجاج   به ، بل لا بد من النظر في ذلك .  
فما كان منه منطبقا على الحسن لذاته فهو حجة ، أو الحسن لغيره فيفصل بين ما تكثر طرقه فيحتج به ، وما لا فلا ، وهذه أمور جملية تدرك تفاصيلها بالمباشرة .  
( فإن يقل ) حيث تقرر أن الحسن لا يشترط في ثاني قسميه ثقة رواته ، ولا اتصال سنده ، واكتفي في عاضده بكونه مثله مع أن كلا منهما بانفراده ضعيف لا تقوم به الحجة ، فكيف ( يحتج بالضعيف ) مع اشتراطهم أو جمهورهم الثقة في القبول ؟ ( فقل ) : إنه لا مانع منه ( إذا كان ) الحديث ( من الموصوف رواته ) واحد فأكثر ( بسوء حفظ ) أو اختلاط أو تدليس مع كونهم من أهل الصدق والديانة فذاك ( يجبر بكونه ) أي : المتن ( من غير وجه يذكر ) .  
ويكون العاضد الذي لا ينحط عن الأصلي معه كافيا ، مع الخدش فيه بما تقدم قريبا من كلام  النووي  وغيره الظاهر في اشتراط التعدد الذي قد لا ينافيه ما سيجيء عن   الشافعي  في المرسل قريبا ; لاشتراطه ما ينجبر به التفرد ، وإنما انجبر ; لاكتسابه من الهيئة المجموعة قوة ، كما في أفراد المتواتر والصحيح لغيره الآتي قريبا .  
وأيضا فالحكم على الطريق الأولى بالضعف إنما هو لأجل الاحتمال المستوي الطرفين في سيئ الحفظ مثلا ; هل ضبط أم لا ؟ فبالرواية الأخرى غلب على الظن أنه ضبط ، على ما تقرر كل ذلك قريبا عند تعريف  الترمذي     .  
( وإن يكن ) ضعف الحديث ( لكذب في ) راويه ( أو شذا ) أي وشذوذ في روايته بأن خالف من      [ ص: 97 ] هو أحفظ أو أكثر ( أو قوي الضعف ) بغيرهما بما يقتضي الرد .  
( فلم يجبر ذا ) أي : الضعف بواحد من هذه الأسباب ولو كثرت طرقه ; كحديث :  من حفظ على أمتي أربعين حديثا  ، فقد نقل  النووي  اتفاق الحفاظ على ضعفه من كثرة طرقه ، ولكن بكثرة طرقه - القاصرة عن درجة الاعتبار ; بحيث لا يجبر بعضها ببعض - يرتقي عن مرتبة المردود المنكر الذي لا يجوز العمل به بحال ، إلى رتبة الضعيف الذي يجوز العمل به في الفضائل .  
وربما تكون تلك الطرق الواهية بمنزلة الطريق التي فيها ضعف يسير ; بحيث لو فرض مجيء ذلك الحديث بإسناد فيه ضعف يسير ، كان مرتقيا بها إلى مرتبة الحسن لغيره .  
( ألا ترى ) الحديث ( المرسل ) مع ضعفه عند   الشافعي  ومن وافقه ( حيث أسندا ) من وجه آخر ( أو أرسلوا ) أي : أو أرسل من طريق تابعي أخذ العلم عن غير رجال التابعي الأول ( كما يجيء ) تقريره في بابه عن نص   الشافعي     ( اعتضدا ) وصار حجة .  
ثم كما أن الحسن على قسمين ، كذلك  الصحيح   ، فما سلف هو الصحيح لذاته ( و ) الحديث ( الحسن ) لذاته وهو ( المشهور بالعدالة والصدق راويه ) غير أنه كما تقدم متأخر المرتبة في الضبط والإتقان عن راوي الصحيح .  
( إذا أتى له طرق أخرى نحوها ) أي : نحو طريقه الموصوفة بالحسن ( من الطرق ) المنحطة عنها ( صححته ) إما عند التساوي أو الرجحان ، فمجيئه من وجه آخر كاف ، وهذا هو الصحيح لغيره ، وتأخيره لكونه كالدليل أيضا لدفع الإيراد قبله .  
				
						
						
