[ والرد عليه ] : تفضيل النزول
( وقد فضل بعض ) من أهل النظر كما حكاه ابن خلاد والخطيب غير معينين له ( النزول ) ; فإن العلو - كما قال بعض الزهاد - من زينة الدنيا .
قال ابن دقيق العيد : وهو كلام واقع ، فالغالب على الطالبين ذلك . قال : وقولهم : العلو قرب من الله يحتاج إلى تحقيق وبحث ، وكأنه لما لعله يتضمن من إثبات الجهة ، وذلك غير مراد ، ولأنه يجب على الراوي أن يجتهد في معرفة جرح من يروي عنه وتعديله ، والاجتهاد في أحوال رواة النازل أكثر ، فكان الثواب فيه أوفر .
قال : وهذا مذهب من يزعم أن الخبر أقوى من القياس ، يعني من جهة أن البحث - والله أعلم - في الخبر أكثر منه في القياس الجلي ، أو لأن تقديم النازل مع اشتماله على كثرة الوسائط المقتضية لتكثير الخبر يتضمن ترجيح الخبر في الجملة . ويساعد هذا القول ظاهر قول ابن خلاد : لا يزال العبد في [ ص: 336 ] فسحة من دينه ما لم يطلب الإسناد ، يعني : التغالي فيه . ابن مهدي
واستعمال ( بعض ) بلا إضافة قليل كما قدمته في ( غير ) من مراتب الصحيح .
( وهو ) ; أي : القول بتفضيل النزول ، ( رد ) ; أي : مردود على قائله ; لضعفه وضعف حجته كما قال ; لأن كثرة المشقة - فيما قال ابن الصلاح ابن دقيق العيد - ليست مطلوبة لنفسها .
قال : ومراعاة المعنى المقصود من الرواية - وهو الصحة - أولى ، وأيده المصنف بأنه بمثابة من يقصد المسجد للجماعة فيسلك الطريق البعيدة لتكثير الخطا رغبة في تكثير الأجر ، وإن أداه سلوكها إلى فوت الجماعة التي هي المقصود ، وذلك أن المقصود من الحديث التوصل إلى صحته ، وبعد الوهم ، وكلما كثر رجال الإسناد تطرق إليه احتمال الخطأ والخلل ، وكلما قصر السند كان أسلم .
وسبقه الخطيب فقال : ومنهم ، أي : ومن أهل النظر ، من يرى أن سماع العالي أفضل ; لأن المجتهد مخاطر ، وسقوط بعض الإسناد مسقط لبعض الاجتهاد ، وذلك أقرب إلى السلامة ، فكان أولى .
وكذا قال : ابن الصلاح ; لأن كل رجل من رجاله يحتمل أن يقع الخلل من جهته سهوا أو عمدا ، ففي قلتهم قلة جهات الخلل ، وفي كثرتهم كثرة جهات الخلل ، قال : وهذا جلي واضح . العلو يبعد الإسناد من الخلل
ونحوه قول ابن دقيق العيد : لا أعلم وجها جيدا لترجيح العلو إلا أنه أقرب إلى الصحة وقلة الخطأ ; فإن الطالبين يتفاوتون في الإتقان ، والغالب عدم الإتقان ، فإذا كثرت الوسائط ، ووقع من كل واسطة تساهل ما ، كثر الخطأ والزلل ، وإذا قلت الوسائط قل . انتهى . [ ص: 337 ] .
وهذا موافق لما ذكره الأصوليون في ترجيح ما قلت وسائطه على ما كثرت ; لأن احتمال الغلط فيما قلت وسائطه أقل ، ثم إن ما علل به تفضيل النزول قد يوهم أن الحكم كذلك ولو كان راوي العالي أحفظ أو أوثق أو أضبط أو نحو ذلك . وليس كذلك جزما ، كما أنه إذا لا تردد - كما قاله انضم إلى النزول الإتقان ، وكان العلو بضده ابن دقيق العيد - في أن النزول أقوى ، ونحوه قول المصنف ، وسأذكر المسألة آخر الباب .
وحينئذ فمحل الاختلاف عند التساوي في جميع الأوصاف ما عدا العلو ، ومع ذلك فالعلو أفضل ، وطلبه - كما قال - من علو همة المحدث ، ونبل قدره ، وجزالة رأيه . ابن طاهر
ولذا أجمع أهل النقل على طلبهم له ، ومدحهم إياه ، حتى إن لم يورد في صحيحه حديث البخاري مالك من جهة ; لكونه لا يصل الشافعي لمالك من طريقه إلا بواسطتين ، وهو قد استغنى عن ذلك بإدراكه أصحابه ، فلم ير النزول مع إمكان العلو . كالقعنبي
وقال الإسماعيلي : ولهذا اعتمد في كثير من حديث البخاري على الزهري شعيب ; إذ كان من أحسن ما أدركه من الإسناد ، وأقل من الرواية من طريق معمر ; لأن أكثر حديث معمر وقع له بنزول ، على أن قد روى عن جماعة ممن سمع منهم تلميذه البخاري مسلم بواسطة بينه وبينهم ; ، كأحمد بن محمد بن حنبل ، وأحمد بن منيع ، وداود بن رشيد ، وسريج بن يونس ، وسعيد بن منصور وعباد بن موسى الختلي ، ، وعبيد الله بن معاذ . وهارون بن معروف
مع أن فيهم من روى عنه بدونها ; إما لكونه لم يسمع تلك الأحاديث إلا [ ص: 338 ] منهم ، أو لغير ذلك كما بسطت ذلك في محله . وقيل في مرضه الذي مات فيه : ما تشتهي ؟ قال : بيت خال ، وإسناد عال . لابن معين
( و ) قد ( قسموه ) ; أي : قسم أبو الفضل بن طاهر ومن تابعهما العلو ( خمسة ) من الأقسام ، مع اختلاف كلامي المذكورين في ماهية بعضها ، وهي ترجع إلى علو مسافة ، وهو قلة الوسائط ، وإلى علو صفة . وابن الصلاح