[  سبب الجرح والتعديل      ] والرابع : في بيان سبب الجرح والتعديل ، وكان إردافه الثاني كما تقدم أنسب ( وصححوا ) أي : الجمهور من المحدثين وغيرهم كما هو المشهور .  
( قبول تعديل بلا ذكر لأسباب له ) خشية ( أن تثقلا ) لأنها كثيرة ، ومتى كلف المعدل لسرد جميعها احتاج أن يقول : يفعل كذا وكذا عادا ما يجب عليه فعله ، وليس يفعل كذا وكذا ، عادا ما يجب عليه تركه ، وفيه طول . ( ولم يروا ) أي : الجمهور أيضا .  
( قبول جرح أبهما ) ذكر سببه من المجرح ; لزوال الخشية المشار إليها ; فإن الجرح يحصل بأمر واحد ، و ( للخلف ) بين الناس ( في أسبابه ) وموجبه .  
( ربما استفسر الجرح ) ببيان سببه من الجارح ( ف ) يذكر ما ( لم يقدح ) مع إطلاقه الجرح به ; لتمسكه بما يعتقد أنه يقتضيه ، أو لشدة تعنته ، وليس كذلك عند غيره .  
( كما فسره   شعبة ) بن الحجاج  مرة ( بالركض ) ، وهو استحثاث الدابة بالرجل لتعدو ، حيث قيل له : لم تركت حديث فلان ؟ قال : رأيته يركض على برذون ، بكسر الموحدة وذال معجمة ، الجافي الخلقة ، الجلد على السير في الشعاب ، والوعر من الخيل غير العربية ، وأكثر ما يجلب من  الروم   ، وحينئذ ( فما ) ذا يلزم من ركضه ، اللهم إلا أن يكون في موضع ، أو على وجه لا يليق ، ولا ضرورة تدعو لذلك ، لا سيما وقد ورد عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم مرفوعا :  سرعة المشي      [ ص: 24 ] تذهب بهاء المؤمن     .  
ونحوه ما روي عن  شعبة  أيضا أنه جاء إلى   المنهال بن عمرو  ، فسمع من داره صوتا فتركه ، قال   ابن أبي حاتم     : إنه سمع قراءة بالتطريب . ونحوه قول أبيه  أبي حاتم  كما قاله الشارح : إنه سمع قراءة ألحان ، فكره السماع منه .  
وقول   وهب بن جرير  عن  شعبة     : أتيت منزل  المنهال  ، فسمعت منه صوت الطنبور ، فرجعت ولم أسأله .  قال  وهب     : فقلت له : فهلا سألته ، عسى كان لا يعلم ؟ قال شيخنا : وهذا اعتراض صحيح ; فإن هذا لا يوجب قدحا في  المنهال  ، بل ولا يجرح الثقة بمثل قول  المغيرة  في  المنهال     : إنه كان حسن الصوت له لحن يقال له : وزن سبعة .  
ولذا قال   ابن القطان  عقب كلام   ابن أبي حاتم  ما نصه : هذا ليس بجرحه إلى أن يتجاوز إلى حد يحرم ، ولم يصح ذاك عنه - انتهى .  
وجرحه بهذا تعسف ظاهر ، وقد وثقه   ابن معين   والعجلي  وغيرهما ;  كالنسائي   [ ص: 25 ]  وابن حبان  ، وقال   الدارقطني     : إنه صدوق .  
واحتج به   البخاري  في صحيحه ، بل وعلقه من رواية  شعبة  نفسه عنه ، فقال في باب ما يكره من المثلة من الذبائح : تابعه  سليمان  عن  شعبة  عن  المنهال ، يعني ابن عمرو  ، عن   سعيد ، هو ابن جبير  ، عن   ابن عمر  قال :  لعن النبي صلى الله عليه وسلم من مثل بالحيوان     . ووصله  البيهقي     .  
وفيه دليل على أن  شعبة  لم يترك الرواية عنه ، وذلك إما بما لعله سمعه منه قبل ذلك ، أو لزوال المانع منه عنده .  
وقد حكى   ابن أبي حاتم  عن أبيه أن السماع يكره ممن يقرأ بالألحان ، ونص   الإمام مالك  في المدونة على أن القراءة بالألحان الموضوعة والترجيع ترد به الشهادة .  
والحق في هذه المسألة أنه إن خرج بالتلحين لفظ القرآن عن صيغته بإدخال حركات فيه أو إخراج حركات منه ، أو قصر ممدود أو مد مقصور ، أو تمطيط يخفى به اللفظ ويلبس به المعنى ، فالقارئ فاسق ، والمستمع آثم ، وإن لم يخرجه اللحن عن لفظه وقراءته على ترتيله ، فلا كراهة ; لأنه زاد بألحانه في      [ ص: 26 ] تحسينه .  
وكذا استفسر غير  شعبة  ، فذكر ما الجرح به غير متفق عليه ، فقال  شعبة     :  قلت   للحكم بن عتيبة     : لم لم تحمل عن  زاذان  ؟ قال : كان كثير الكلام     .  
ولعله استند إلى ما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :  من كثر كلامه كثر سقطه ، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ، ومن كثرت ذنوبه فالنار أولى به  ، وكذا لما ورد في ذم من تكلم فيما لا يعنيه .  
وممن تكلم في  زاذان   الحاكم أبو أحمد  ، فقال : إنه ليس بالمتين عندهم . وقال   ابن حبان     : كان يخطئ كثيرا ، لكن قد وثقه غير واحد ، وأخرج له  مسلم     .  
 [ ص: 27 ] وقال   جرير بن عبد الحميد     : أتيت   سماك بن حرب  ، فرأيته يبول قائما ، فلم أسأله عن حرف . قلت : قد خرف ، ولعله كان بحيث يرى الناس عورته .  
وقد عقد  الخطيب  في الكفاية لهذا بابا ، ومما ذكر فيه مما تبعه   ابن الصلاح  في إيراده : أن   مسلم بن إبراهيم  سئل عن حديث   لصالح المري  ، فقال : ما تصنع  بصالح  ؟ ذكروه يوما عند   حماد بن سلمة  ، فامتخط  حماد     .  
وإدخال مثل هذا في هذا الباب غير جيد ،  فصالح  ضعيف عندهم ، ولذا حذفه المصنف ، بل قد بان في جميع ما ذكر عدم تحتم الجرح به . ( هذا ) أي : القول بالتفصيل ، هو ( الذي عليه ) الأئمة ( حفاظ الأثر ) أي : الحديث ونقاده .  
 كالبخاري  ومسلم     ( شيخي الصحيح ) اللذين كانا أول من صنف فيه ، وغيرهما من الحفاظ ( مع أهل النظر )   كالشافعي  ، فقد نص عليه ، وقال   ابن الصلاح     : إنه ظاهر مقرر في الفقه وأصوله ، وقال  الخطيب     : إنه الصواب عندنا .  
والقول الثاني عكسه ، فيشترط تفسير التعديل دون الجرح ; لأن  أسباب العدالة يكثر التصنع فيها   ، فيتسارع الناس إلى الثناء على الظاهر ، [ ف ] هذا   الإمام مالك  مع شدة نقله وتحريه قيل له في الرواية عن   عبد الكريم بن أبي المخارق  ، فقال :      [ ص: 28 ] غرني بكثرة جلوسه في المسجد ، يعني لما ورد من كونه بيت كل تقي .  
ونحوه قول  أحمد بن يونس  لمن قال له :   عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري  ضعيف : إنما يضعفه رافضي مبغض لآبائه ، لو رأيت لحيته وخضابه وهيئته لعرفت أنه ثقة . فاستدل لثقته بما ليس بحجة ; لأن حسن الهيئة يشترك فيه العدل وغيره ، وهو ظاهر ، وإن أمكن أن يقال : لعله أراد أن توسمه يقضي بعدالته فضلا عن دينه ومروءته وضبطه ، لكن يندفع هذا في  العمري  بخصوصه بأن الجمهور على ضعفه ، وكثيرا ما يوجد مدح المرء بأنك إذا رأيت سمته علمت أنه يخشى الله .  
[ والثالث : أنه لابد من سببهما معا للمعنيين السابقين ، فكما يجرح الجارح بما لا يقدح ، كذلك يوثق المعدل بما لا يقتضي العدالة كما بينا ] .  
والرابع عكسه ، إذا صدر الجرح أو التعديل من عالم بصير به كما سيأتي قريبا مع الخدش في كونه قولا مستقلا ( فإن يقل ) على القول الأول : قد ( قل ) فيما يحكى عن الأئمة في الكتب المعول عليها في الرجال ( بيان ) سبب جرح ( من جرح ) ، بل اقتصروا فيها غالبا على مجرد الحكم بأن فلانا ضعيف ، أو ليس بشيء ، أو نحو ذلك .  
 [ ص: 29 ]    ( وكذا ) قل بيانهم لسبب ضعف الحديث ( إذا قالوا ) في كتب المتون ونحوها ( لمتن ) : إنه لم يصح ، بل اقتصروا أيضا غالبا على مجرد الحكم بضعف هذا الحديث ، أو عدم ثبوته ، أو نحو ذلك ( وأبهموا ) بيان السبب في الموضعين ، واشتراط البيان يفضي إلى تعطيل ذلك ، وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر .  
( فالشيخ )   ابن الصلاح     ( قد أجابا ) عن هذا السؤال ب ( أن يجب الوقف ) من الواقف عليه ، كذلك عن الاحتجاج بالراوي أو بالحديث ( إذ استرابا ) أي : لأجل حصول الريبة القوية بذلك ، ويستمر واقفا ( حتى يبين ) بضم أوله ، من أبان ; أي : يظهر ( بحثه ) وفحصه عن حال ذاك الراوي أو الحديث ( قبوله ) مطلقا ، أو في بعض حديثه . والثقة بعدالته وعدم تأثير ما وقف عليه فيه من الجرح المجرد ( كمن ) أي : كالذي من الرواة ( أولو ) أي : أصحاب ( الصحيح ) :   البخاري  ومسلم  وغيرهما ( خرجوا ) فيه ( له ) مع كونه ممن مس من غيرهم بجرح مبهم ، وقال : فافهم ذلك ; فإنه مخلص حسن .  
( ففي   البخاري  احتجاجا  عكرمه     ) أي :   فعكرمة التابعي مولى ابن عباس  مخرج له في صحيح   البخاري  على وجه الاحتجاج به ، فضلا عن المتابعات ونحوها ، مع ما فيه من الكلام ; لكونه له عنه أتم مخلص ، حتى إن جماعة صنفوا في الذب عن  عكرمة     ;   كأبي جعفر بن جرير الطبري  ،   ومحمد بن نصر المروزي  ،  وأبي عبد الله بن منده  ،   وابن حبان  ،   وابن عبد البر     .  
وحقق ذلك شيخنا في مقدمته بما لا نطيل به ( مع   ابن مرزوق ) عمرو الباهلي البصري  ، لكن متابعة لا احتجاجا ( وغير ترجمه ) أي : راو على وجه الاحتجاج ، وغيره ممن سبق من غيره التضعيف لهم يعرف تعيينهم ، والمخرج لهم منهم في      [ ص: 30 ] الأصول ممن في المتابعات ، مع الحجة في التخريج لهم ، من المقدمة أيضا .  
وكذا ( احتج  مسلم  بمن قد ضعفا ) من غيره ( نحو   سويد ) هو ابن سعيد  ، وجماعة غيره ( إذ بجرح ) مطلق ( ما اكتفى ) كل من   البخاري  ومسلم  لتحقيقهما نفيه ، بل أكثر من فسر الجرح في سويد ذكر أنه لما عمي ربما تلقن الشيء ، وهذا وإن كان قادحا فإنما يقدح فيما حدث به بعد العمى ، لا فيما قبله . والظاهر أن  مسلما  عرف أن ما خرجه عنه من صحيح حديثه ، أو مما لم ينفرد به طلبا للعلو .  
قال   إبراهيم بن أبي طالب     : قلت  لمسلم     : كيف استجزت الرواية عن  سويد  في الصحيح ؟ فقال : ومن أين كنت آتي بنسخة   حفص بن ميسرة  ، وذلك أن  مسلما  لم يرو في صحيحه عن أحد ممن سمع  حفصا  سواه ، وروى فيه عن واحد عن  ابن وهب  عن  حفص     . ( قلت وقد قال ) في أصل المسألة   إمام الحرمين ( أبو المعالي ) الجويني  في كتابه ( البرهان ) ( واختاره تلميذه )   حجة الإسلام أبو حامد ( الغزالي  و ) كذا الإمام   فخر الدين ( ابن الخطيب ) الرازي     ( الحق أن يحكم ) مسكن الميم ; أي : يقضى ( بما أطلقه العالم ) مسكن الميم أيضا ، البصير ( بأسبابهما ) أي : الجرح والتعديل ، من غير بيان لسبب واحد منهما ، واختاره   القاضي أبو بكر الباقلاني  ونقله عن الجمهور ، فقال : قال الجمهور من أهل العلم : "  إذا جرح من لا يعرف الجرح يجب الكشف عن ذلك   ، ولم يوجبوا ذلك على أهل العلم بهذا الشأن " .  
قال : " والذي يقوي عندنا ترك الكشف عن ذلك إذا كان الجارح عالما ، كما لا      [ ص: 31 ] يجب  استفسار المعدل عما به صار عنده المزكى عدلا      " .  
وممن حكاه عن  القاضي أبي بكر   الغزالي  في المستصفى ، لكنه حكى عنه أيضا في المنخول خلافه ، وما ذكره عنه في المستصفى هو الذي حكاه صاحب ( المحصول ) ،   والآمدي  ، وهو المعروف عن القاضي ، كما رواه  الخطيب  عنه في الكفاية بإسناده الصحيح ، واختاره  الخطيب  أيضا ، وذلك أنه بعد تقرير القول الأول الذي صوبه قال : " على أنا نقول أيضا : إن كان الذي يرجع إليه في الجرح عدلا مرضيا في اعتقاده وأفعاله ، عارفا بصفة العدالة والجرح وأسبابهما ، عالما باختلاف الفقهاء في أحكام ذلك ، قبل قوله فيمن جرحه مجملا ، ولا يسأل عن سببه " ، انتهى .  
[ وقريب منه اعتماد قول الفقيه الموافق بتنجيس الماء دون مقبول الرواية غير الفقيه ; فإنه لابد من ذكره السبب ] .  
وبالجملة فهذا خلاف ما اختاره   ابن الصلاح  في كون الجرح المبهم لا يقبل ، وهو عين القول الرابع المشار إليه أولا ، ولكن قد قال  ابن جماعة     : " إنه ليس بقول مستقل ، بل هو تحقيق لمحل النزاع ، وتحرير له ; إذ  من لا يكون عالما بالأسباب لا يقبل منه جرح ولا تعديل   لا بإطلاق ولا بتقييد ، فالحكم بالشيء فرع عن العلم التصوري به " . وسبقه لنحوه  التاج السبكي  ، قال : إنه لا تعديل وجرح إلا من العالم .  
 [ ص: 32 ] وكذا قيد في ترجمة  أحمد بن صالح  القول باستفسار المجرح بما إذا كان الجرح في حق من ثبتت عدالته . وسبقه  البيهقي  فترجم : " باب : لا يقبل  الجرح فيمن ثبتت عدالته   إلا بأن نقف على ما يجرح به " .  
وكذا قال   ابن عبد البر     : " من صحت عدالته ، وثبتت في العلم إمامته ، وبانت همته فيه وعنايته ، لم يلتفت فيه إلى قول أحد ، إلا أن يأتي الجارح في جرحه ببينة عادلة يصح بها جرحه على طريق الشهادات والعمل بما فيها من المشاهدة لذلك بما يوجب قبوله " ، انتهى .  
وليس المراد إقامة بينة على جرحه ، بل المعنى أنه يستند في جرحه لما يستند إليه الشاهد في شهادته ، وهو المشاهدة ونحوها .  
وأوضح منه في المراد ما سبقه به   محمد بن نصر المروزي     ; فإنه قال : " وكل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يبين ذلك بأمر لا يحتمل أن يكون غير جرحه " .  
ولذا كله كان المختار عند شيخنا أنه إن خلا المجروح عن تعديل قبل الجرح فيه مجملا ، غير مبين السبب إذا صدر من عارف ، قال : " لأنه إذا لم يكن فيه تعديل فهو في حيز المجهول ، وإعمال قول المجرح أولى من إهماله " ، قال : " ومال   ابن الصلاح  في مثل هذا إلى التوقف " انتهى .  
 [ ص: 33 ] وقيد بعض المتأخرين  قبول الجرح المفسر فيمن عدل   أيضا ، بما إذا لم تكن هناك قرينة يشهد العقل بأن مثلها يحمل على الوقيعة من تعصب مذهبي ، أو منافسة دنيوية ، وهو كذلك كما سيأتي إن شاء الله مع مزيد في معرفة الثقات والضعفاء .  
				
						
						
