[ ص: 439 ] 52 - قالوا : حديث يدفعه الكتاب وحجة العقل
داجن تأكل صحيفة من الكتاب
قالوا : رويتم عن محمد بن إسحاق ، عن عن عبد الله بن أبي بكر ، عمرة ، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : لقد نزلت آية الرجم ورضاع الكبير عشرا ، فكانت في صحيفة تحت سريري عند وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما توفي وشغلنا به دخلت داجن للحي فأكلت تلك الصحيفة .
قالوا : وهذا خلاف قول الله - تبارك وتعالى - : وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فكيف يكون عزيزا وقد أكلته شاة وأبطلت فرضه وأسقطت حجته ؟ وأي أحد يعجز عن إبطاله والشاة تبطله ؟ وكيف قال : اليوم أكملت لكم دينكم وقد أرسل عليه ما يأكله ؟ وكيف عرض الوحي لأكل شاة ولم يأمر بإحرازه وصونه ؟ ولم أنزله وهو لا يريد العمل به ؟
[ ص: 440 ] : الصحف التي كتب عليها القرآن
قال أبو محمد : ونحن نقول : إن هذا الذي عجبوا منه كله ليس فيه عجب ، ولا في شيء مما استفظعوا منه فظاعة .
فإن كان العجب من الصحيفة فإن الصحف في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلى ما كتب به القرآن ؛ لأنهم كانوا يكتبونه في الجريد والحجارة والخزف وأشباه هذا ، قال : أمرني زيد بن ثابت أبو بكر - رضي الله عنه - بجمعه ، فجعلت أتتبعه من الرقاع والعسب واللخاف . والعسب جمع عسيب النخل ، واللخاف حجارة رقاق واحدها لخفة .
وقال : قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقرآن في العسب والقضم والكرانيف . والقضم جمع قضيم وهي الجلود ، والكرانيف أصول السعف الغلاظ واحدها كرنافة . الزهري
وكان القرآن متفرقا عند المسلمين ولم يكن عندهم كتاب ولا آلات .
يدلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكتب إلى ملوك الأرض في أكارع الأديم ، وإن كان العجب من وضعه تحت السرير ، فإن القوم لم يكونوا ملوكا فتكون لهم الخزائن والأقفال وصناديق الآبنوس والساج .
وكانوا إذا أرادوا إحراز شيء أو صونه وضعوه تحت السرير ليأمنوا عليه من الوطء وعبث الصبي والبهيمة ، وكيف يحرز من لم يكن في منزله حرز ، ولا قفل ، ولا خزانة ، إلا بما يمكنه ويبلغه وجده ، ومع النبوة التقلل والبذاذة ؟
[ ص: 441 ] كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرقع ثوبه ويخصف نعله ويصلح خفه ويمهن أهله ، ويأكل بالأرض ويقول : إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد .
وعلى ذلك كانت الأنبياء - عليهم السلام - ، وكان سليمان - عليه السلام - وقد آتاه الله من الملك ما لم يؤت أحدا قبله ولا بعده يلبس الصوف ، ويأكل خبز الشعير ، ويطعم الناس صنوف الطعام ، وكلم الله موسى - عليه السلام - وعليه مدرعة من شعر أو صوف ، وفي رجليه نعلان من جلد حمار ميت ، فقيل له : فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى .
وكان يحيى - عليه السلام - يحتبل بحبل من ليف ، وهذا أكثر من أن نحصيه وأشهر من أن نطيل الكتاب به .
وإن كان العجب من الشاة فإن الشاة أفضل الأنعام ، وقرأت في مناجاة عزير ربه أنه قال : اللهم إنك اخترت من الأنعام الضائنة ، ومن الطير الحمامة ، ومن النبات الحبلة ، ومن البيوت بكة وإيلياء ، ومن إيلياء بيت المقدس .
وروى عن وكيع ، الأسود بن عبد الرحمن عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما خلق الله دابة أكرم عليه من النعجة ، فما يعجب من أكل الشاة تلك الصحيفة .
وهذا الفأر شر حشرات الأرض يقرض المصاحف ويبول عليها ، وهذا العث يأكلها .
[ ص: 442 ] ولو كانت النار أحرقت الصحيفة أو ذهب بها المنافقون كان العجب منهم أقل ، والله تعالى يبطل الشيء إذا أراد إبطاله بالضعيف والقوي ، فقد أهلك قوما بالذر كما أهلك قوما بالطوفان ، وعذب قوما بالضفادع كما عذب آخرين بالحجارة ، وأهلك نمروذ ببعوضة وغرق اليمن بفأرة .
: إكمال الدين بظهوره على الشرك
وأما قولهم : كيف يكمل الدين وقد أرسل عليه ما أبطله ؟ فإن هذه الآية نزلت عليه - صلى الله عليه وسلم - يوم حجة الوداع حين أعز الله تعالى الإسلام وأذل الشرك وأخرج المشركين عن مكة ، فلم يحج في تلك السنة إلا مؤمن ، وبهذا أكمل الله تعالى الدين وأتم النعمة على المسلمين ، فصار كمال الدين - هاهنا - عزه وظهوره وذل الشرك ودوسه .
لا تكامل الفرائض والسنن ؛ لأنها لم تزل تنزل إلى أن قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهكذا قال في هذه الآية . الشعبي
ويجوز أن يكون الإكمال للدين برفع النسخ عنه بعد هذا الوقت ، وأما إبطاله إياه فإنه يجوز أن يكون أنزله قرآنا ، ثم أبطل تلاوته وأبقى العمل به كما قال عمر - رضي الله عنه - في آية الرجم ، وكما قال غيره في أشياء كانت من القرآن قبل أن يجمع بين اللوحين فذهبت .
وإذا جاز أن يبطل العمل به وتبقى تلاوته جاز أن تبطل تلاوته ويبقى العمل به ، ويجوز أن يكون أنزله وحيا إليه كما كان تنزل عليه أشياء من أمور الدين ، ولا يكون ذلك قرآنا كتحريم نكاح العمة على بنت أخيها والخالة على بنت أختها ، والقطع في ربع دينار ، ولا قود على والد ، ولا على سيد ، ولا ميراث لقاتل .
[ ص: 443 ] وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : يقول الله تعالى : ، وكقوله يقول الله - عز وجل - : إني خلقت عبادي جميعا حنفاء وأشباه هذا . من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا
وقد قال : - عليه السلام - : أوتيت الكتاب ومثله معه ، يريد ما كان جبريل - عليه السلام - يأتيه به من السنن ، وقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجم الناس بعده وأخذ بذلك الفقهاء .
: رضاع الكبير
فأما رضاع الكبير عشرا فنراه غلطا من محمد بن إسحاق ، ولا نأمن أيضا أن يكون الرجم الذي ذكر أنه في هذه الصحيفة كان باطلا ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رجم ماعز بن مالك وغيره قبل هذا الوقت ، فكيف ينزل عليه مرة أخرى ، ولأن روى هذا الحديث بعينه ، عن مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر ، عمرة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات يحرمن ، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن مما يقرأ من القرآن .
وقد أخذ بهذا الحديث قوم من الفقهاء منهم الشافعي وإسحاق وجعلوا الخمس حدا بين ما يحرم ، وما لا يحرم كما جعلوا القلتين حدا بين ما ينجس من الماء وما لا ينجس .
[ ص: 444 ] وألفاظ حديث مالك خلاف ألفاظ حديث محمد بن إسحاق .
ومالك أثبت عند أصحاب الحديث من محمد بن إسحاق .
قال أبو محمد : حدثنا أبو حاتم قال : حدثنا قال : حدثنا الأصمعي معمر قال : قال لي أبي : لا تأخذن عن محمد بن إسحاق شيئا فإنه كذاب .
وقد كان يروي عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير وهي امرأة فبلغ ذلك هشام بن عروة ، هشاما فأنكره وقال : أهو كان يدخل على امرأتي أم أنا ؟
وأما قول الله - تبارك وتعالى - : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فإنه تعالى لم يرد بالباطل أن المصاحف لا يصيبها ما يصيب سائر الأعلاق والعروض ، وإنما أراد أن الشيطان لا يستطيع أن يدخل فيه ما ليس منه قبل الوحي وبعده .