[ ص: 128 ] : تمييز الأحاديث الموضوعة للتحذير فيها
وقد يعيبهم الطاعنون بحملهم الضعيف ، وطلبهم الغرائب ، وفي الغريب الداء . ولم يحملوا الضعيف والغريب لأنهم رأوهما حقا ، بل جمعوا الغث والسمين والصحيح والسقيم ليميزوا بينهما ويدلوا عليهما ، وقد فعلوا ذلك فقالوا في الحديث المرفوع : " شرب الماء على الريق يعقد الشحم " هو موضوع ، وضعه عاصم الكوزي .
وفي حديث : أنه كان يبصق في الدواة ويكتب منها ، موضوع وضعه ابن عباس عاصم الكوزي . قالوا : وحديث الحسن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لم يجز طلاق المريض " موضوع ، وضعه سهل السراج . قالوا وسهل كان يروى أنه رأى الحسن يصلي بين سطور القبور ، وهذا باطل لأن الحسن روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : نهى عن الصلاة بين القبور قالوا : وحديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يزال الرجل راكبا ما دام منتعلا ، باطل وضعه أيوب بن خوط . وحديث : عمرو بن حريث ، هو باطل ، وضعه رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يشار بين يديه يوم العيد بالحراب المنذر بن زياد .
[ ص: 129 ] وحديث : ابن أبي أوفى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمس لحيته في الصلاة ، وضعه المنذر بن زياد . وحديث يونس عن الحسن : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن عشر كنى ، موضوع ، وضعه أبو عصمة قاضي مرو .
وقالوا في : أحاديث موجودة على ألسنة الناس ، ليس لها أصل
منها : من سعادة المرء خفة عارضيه . ومنها : سموهم بأحب الأسماء إليهم ، وكنوهم بأحب الكنى إليهم . ومنها : خير تجارتكم البز وخير أعمالكم الخرز . ومنها : لو صدق السائل ما أفلح من رده . ومنها : الناس أكفاء إلا حائكا أو حجاما . مع حديث كثير ، لا يحاط به قد رووه ، وأبطلوه .
وقال في أحاديث ابن المبارك من قرأ سورة كذا فله كذا ومن قرأ سورة كذا فله كذا : أظن الزنادقة وضعته . وكذلك هذه الأحاديث التي يشنع بها عليهم ، من عرق الخيل وزغب الصدر وقفص الذهب وعيادة الملائكة ، هي كلها باطل ، لا طرق لها ولا رواة ، ولا نشك في وضع الزنادقة لها . أبي بن كعب ،
: تأويل الأحاديث الصحيحة المشكلة
قال أبو محمد : وقد جاءت أحاديث صحاح مثل : [ ص: 130 ] و قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن آدم على صورته و إن الله تعالى خلق و كلتا يديه يمين و يحمل الله الأرض على أصبع ويجعل كذا على أصبع وكذا على أصبع لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن و . كثافة جلد الكافر في النار أربعون ذراعا بذراع الجبار
قال أبو محمد : ولهذه الأحاديث مخارج سنخبر بها في مواضعها من هذا الكتاب إن شاء الله .
وربما نسي الرجل منهم الحديث قد حدث به ، وحفظ عنه ، ويذاكر به فلا يعرفه ، ويخبر بأنه قد حدث به فيرويه عمن سمعه منه ، ضنا بالحديث الجيد ورغبة في السنة ، كرواية عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أبيه عن سهيل بن أبي صالح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي هريرة قال قضى باليمين مع الشاهد ربيعة : ثم ذاكرت سهيلا بهذا الحديث ، فلم يحفظه ، وكان بعد ذلك يرويه عني عن نفسه عن أبيه عن . أبي هريرة
وكرواية وكيع وأبي معاوية عن حديثين أحدهما عن ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح مجاهد قال حدثناه محمد بن هارون [ ص: 131 ] قال : نا قال نا إبراهيم بن بشار عن ابن عيينة أبي معاوية عن عن ابن أبي نجيح مجاهد في قول الله : يوم تمور السماء مورا قال : تدور دورا . وعن عمرو عن عكرمة في قول الله تعالى : من صياصيهم قال : الحصون ، فسئل عنهما فلم يعرفهما ، وحدث ابن عيينة بهما عنهما عن نفسه . ابن عيينة
وروى عن ابن علية ، عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنه كان لا يرى طلاق المكره شيئا ، فسأل عنه عمر بن عبد العزيز ، فلم يعرفه ، ثم حدث به بعد عن ابن عيينة عن نفسه . ابن علية
: التنبيه إلى الأحاديث الضعيفة
قال أبو محمد : وكان يقول : حدثني منقذ عني ، عن معتمر بن سليمان أيوب عن الحسن قال : " ويح " كلمة رحمة .
وقد نبهوا على الطرق الضعاف كحديث عن [ ص: 132 ] أبيه عن جده ، لأنها مأخوذة عندهم من كتاب ، وكان عمرو بن سعيد مغيرة لا يعبأ بحديث ولا بحديث خلاس ولا بصحيفة سالم بن أبي الجعد . وقال عبد الله بن عمرو مغيرة : كانت صحيفة تسمى الصادقة ، ما تسرني أنها لي بفلسين . وقال : حديث أصحاب عبد لعبد الله بن عمرو عن الله بن مسعود علي أصح من حديث أصحاب علي عنه ، وقال شعبة : لأن أزني كذا وكذا زنية أحب إلي من أن أحدث عن أبان بن أبي عياش [ ص: 133 ] ضعفهم باللغة والمعرفة :
وأما طعنهم عليهم بقلة المعرفة لما يحملون ، وكثرة اللحن والتصحيف ، فإن الناس لا يتساوون جميعا في المعرفة والفضل ، وليس صنف من الناس إلا وله حشو وشوب .
فأين هذا العايب لهم عن أعلم الناس بكل فن ، الزهري وحماد بن سلمة ومالك بن أنس وابن عون وأيوب ويونس بن عبيد وسليمان التيمي وسفيان الثوري ويحيى بن سعيد وابن جريج والأوزاعي وشعبة وأمثال هؤلاء من المتقنين ؟ . وعبد الله بن المبارك
: المنفرد بفن لا يعاب بالزلل في غيره
على أن المنفرد بفن من الفنون لا يعاب بالزلل في غيره ، وليس على المحدث عيب أن يزل في الإعراب ولا على الفقيه أن يزل في الشعر ، وإنما يجب على كل ذي علم أن يتقن فنه إذا احتاج الناس إليه فيه وانعقدت له الرئاسة به ، وقد يجتمع للواحد علوم كثيرة والله يؤتي الفضل من يشاء .
[ ص: 134 ] وقد قيل لأبي حنيفة - وكان في الفتيا ولطف النظر واحد زمانه - : ما تقول في رجل تناول صخرة فضرب به رأس رجل فقتله ، أتقيده به ؟ فقال : لا ولو رماه بأبا قبيس . وكان يقول لجلسائه : قضى الله لكم الحوائج على أحسن الأمور وأهنؤها ، فنظر بشر المريسي قاسم التمار قوما يضحكون من قول بشر ، فقال : هذا كما قال الشاعر
إن سليمى والله يكلؤها ضنت بشيء ما كان يرزؤها
.وبشر رأس في الرأي ، وقاسم التمار متقدم في أصحاب الكلام واحتجاجه لبشر أعجب من لحن بشر .
وقال بلال لشبيب بن شيبة وهو يستعدي على عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر : أحضرنيه ، فقال : قد دعوته فكل ذلك يأبى علي ، قال بلال : فالذنب لكل .
[ ص: 135 ] ولا أعلم أحدا من أهل العلم والأدب إلا وقد أسقط في علمه كالأصمعي وأبي زيد وأبي عبيدة وسيبويه والأخفش والكسائي والفراء وكالأئمة من قراء القرآن والأئمة من المفسرين . وأبي عمرو الشيباني ،
وقد أخذ الناس على الشعراء في الجاهلية والإسلام الخطأ في المعاني وفي الإعراب وهم أهل اللغة وبهم يقع الاحتجاج ، فهل أصحاب الحديث في سقطهم إلا كصنف من الناس ؟ على أنا لا نخلي أكثرهم من العذل في كتبنا ، في تركهم الاشتغال بعلم ما قد كتبوا والتفقه بما جمعوا ، وتهافتهم على طلب الحديث من عشرة أوجه وعشرين وجها ، وقد كان في الوجه الواحد الصحيح والوجهين مقنع لمن أراد الله - عز وجل - بعلمه ، حتى تنقضي أعمارهم ولم يحلوا من ذلك إلا بأسفار أتعبت الطالب ولم تنفع الوارث .
[ ص: 136 ] فمن كان من هذه الطبقة فهو عندنا مضيع لحظه مقبل على ما كان غيره أنفع له منه ، وقد لقبوهم بالحشوية والنابتة والمجبرة ، وربما قالوا : الجبرية وسموهم الغثاء والغثر .