رؤية الرب تبارك وتعالى
قالوا : رويتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ، والله تعالى يقول : ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، ويقول : ليس كمثله شيء ، قالوا : وليس يجوز في حجة العقل أن يكون الخالق يشبه المخلوق في شيء من الصفات ، وقد قال موسى - عليه السلام - : رب أرني أنظر إليك قال لن تراني .
قالوا : فإن كان هذا الحديث صحيحا فالرؤية فيه بمعنى العلم كما قال تعالى : ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ، وقال : ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير .
[ ص: 298 ] قال أبو محمد : ونحن نقول : إن هذا الحديث صحيح لا يجوز على مثله الكذب لتتابع الروايات عن الثقات به من وجوه كثيرة ولو كان يجوز أن يكون مثله كذبا جاز أن يكون كل ما نحن عليه من أمور ديننا في التشهد الذي لم نعلمه إلا بالخبر وفي صدقة النعم وزكاة الناض من الأموال ، والطلاق ، والعتاق ، وأشباه ذلك من الأمور التي وصل إلينا علمها بالخبر ، ولم يأت لها بيان في الكتاب باطلا .
وأما قوله تعالى : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وقول موسى - عليه السلام - رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ، فليس ناقضا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لأنه أراد - جل وعز - بقوله : ترون ربكم يوم القيامة لا تدركه الأبصار في الدنيا ، وقال لموسى - عليه السلام - : لن تراني يريد في الدنيا ؛ لأنه - جل وعز - احتجب عن جميع خلقه في الدنيا ويتجلى لهم يوم الحساب ويوم الجزاء والقصاص ، فيراه المؤمنون كما يرون القمر في ليلة البدر ، ولا يختلفون فيه كما لا يختلفون في القمر ، ولم يقع التشبيه بها على كل حالات القمر في التدوير والمسير والحدود وغير ذلك ، وإنما وقع التشبيه بها على أنا ننظر إليه - عز وجل - كما ننظر إلى القمر ليلة البدر لا يختلف في ذلك كما لا يختلف في القمر ، والعرب تضرب المثل بالقمر في الشهرة والظهور ، فيقولون : هذا أبين من الشمس ، ومن فلق الصبح ، وأشهر من القمر ، قال : ذو الرمة
وقد بهرت فما تخفى على أحد إلا على أحد لا يعرف القمرا
وقوله في الحديث : دليل ؛ لأن التضام من [ ص: 299 ] الناس يكون في أول الشهر عند طلبهم الهلال فيجتمعون ، ويقول واحد : " هو ذاك هو ذاك " ، ويقول آخر : " ليس به وليس القمر كذلك " ؛ لأن كل واحد يراه بمكانه ولا يحتاج إلى أن ينضم إلى غيره لطلبه . لا تضامون في رؤيته
وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاض على الكتاب ومبين له ، فلما قال الله تعالى : لا تدركه الأبصار وجاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصحيح من الخبر : لم يخف على ذي فهم ونظر ولب وتمييز أنه في وقت دون وقت ، وفي قول ترون ربكم تعالى في القيامة موسى - عليه السلام - رب أرني أنظر إليك أبين الدلالة على أنه يرى في القيامة ، ولو كان الله تعالى لا يرى في حال من الأحوال ولا يجوز عليه النظر ، لكان موسى - عليه السلام - قد خفي عليه من وصف الله تعالى ما علموه .
ومن قال بأن الله تعالى يدرك بالبصر يوم القيامة فقد حده عندهم ، ومن كان الله تعالى عنده محدودا فقد شبهه بالمخلوقين ، ومن شبهه عندهم بالخلق فقد كفر ، فما يقولون في موسى - عليه السلام - فيما بين أن الله تعالى نبأه وكلمه من الشجرة إلى الوقت الذي قال له فيه رب أرني أنظر إليك ، أيقضون عليه بأنه كان مشبها لله محددا ؟ لا لعمر الله لا يجوز أن يجهل موسى - عليه السلام - من الله - عز وجل - مثل هذا لو كان على تقديرهم . [ ص: 300 ] ولكن موسى - عليه السلام - علم أن الله تعالى يرى يوم القيامة ، فسأل الله - عز وجل - أن يجعل له في الدنيا ما أجله لأنبيائه وأوليائه يوم القيامة ، فقال له : لن تراني يعني في الدنيا ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ، أعلمه أن الجبل لا يقوم لتجليه حتى يصير دكا ، وإن الجبال إذا ضعفت عن احتمال ذلك فابن آدم أحرى أن يكون أضعف إلى أن يعطيه الله تعالى يوم القيامة ما يقوى به على النظر ويكشف عن بصره الغطاء الذي كان في الدنيا .
والتجلي : هو الظهور ، ومنه يقال : جلوت العروس إذا أبرزتها ، وجلوت المرآة والسيف إذا أظهرتهما من الصدأ .
وأما قولهم : إن الرؤية في قوله : بمعنى العلم كما قال تعالى : ترون ربكم يوم القيامة ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير يريد ألم تعلم ، فإنه يستحيل ؛ لأنا نعلمه في الدنيا أيضا ، فأي فائدة في هذا الخبر إذا كان الأمر في يوم القيامة وفي الدنيا واحدا .
وقرأت في الإنجيل أن المسيح - عليه السلام - حين فتح فاه بالوحي قال : طوبى للذين يرحمون فعليهم تكون الرحمة ، طوبى للمخلصة قلوبهم فإنهم الذين يرون الله تبارك وتعالى .
والله - تبارك وتعالى - يقول : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، ويقول في قوم سخط عليهم : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم .
[ ص: 301 ] أفما في هذا القول دليل على أن الوجوه الناضرة التي هي إلى ربها ناظرة هي التي لا تحجب إذا حجبت هذه الوجوه ، فإن قالوا لنا : كيف ذلك النظر والمنظور إليه ؟
قلنا : نحن لا ننتهي في صفاته جل جلاله إلا إلى حيث انتهى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ندفع ما صح عنه ؛ لأنه لا يقوم في أوهامنا ولا يستقيم على نظرنا ، بل نؤمن بذلك من غير أن نقول فيه بكيفية أو حد ، أو أن نقيس على ما جاء ما لم يأت ، ونرجو أن يكون في ذلك من القول والعقد سبيل النجاة والتخلص من الأهواء كلها غدا إن شاء الله تعالى .