قال : وأصحابه حين أنزل الله السورة التي يذكر فيها جعفر بن أبي طالب والنجم إذا هوى فقال المشركون من قريش : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ، فإنه لا يذكر أحدا ممن خالف دينه من ثم رجع هؤلاء الذين ذهبوا المرة الأولى قبل اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر به آلهتنا من الشر والشتم ، فلما أنزل الله السورة الذي يذكر فيها والنجم ، وقرأ : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ ص: 33 ] ألقى الشيطان فيها عند ذلك ذكر الطواغيت ، فقال : وإنهن من العرانيق العلا ، وإن شفاعتهم لترتجى ، وذلك من سجع الشيطان وفتنته ، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك ، وذلت بها ألسنتهم ، واستبشروا بها ، وقالوا : إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ، ودين قومه .
فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر السورة التي فيها النجم سجد ، وسجد معه كل من حضره من مسلم ومشرك ، غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه ، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما المسلمون فعجبوا من سجود المشركين من غير إيمان ولا يقين ، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان على ألسنة المشركين . وأما المشركون فاطمأنت أنفسهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما سمعوا الذي ألقى الشيطان في أمنية النبي - صلى الله عليه وسلم - وحدثهم الشيطان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قرأها في السجدة ، فسجدوا لتعظيم آلهتهم ، ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت الحبشة ، فلما سمع ، عثمان بن مظعون ، ومن كان معهم من وعبد الله بن مسعود أهل مكة أن الناس قد أسلموا ، وصاروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه ، أقبلوا سراعا فكبر ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أمسى أتاه جبريل - عليه السلام - فشكا إليه ، فأمره فقرأ عليه ، فلما بلغها تبرأ منها جبريل قال : معاذ الله من هاتين ، ما أنزلهما ربي ، ولا أمرني بهما ربك ، فلما رأى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شق عليه وقال : أطعت الشيطان ، وتكلمت بكلامه ، وشركني في أمر الله . فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأنزل عليه : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم . ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد .
فلما برأه الله عز وجل من سجع الشيطان وفتنته انقلب المشركون بضلالهم وعداوتهم ، وبلغ المسلمون ممن كان بأرض الحبشة ، وقد شارفوا مكة فلم يستطيعوا الرجوع من شدة البلاء الذي أصابهم والجوع والخوف وخافوا أن يدخلوا مكة فيبطش [ ص: 34 ] بهم فلم يدخل رجل منهم إلا بجوار ، فأجار الوليد بن المغيرة ، فلما أبصر عثمان بن مظعون الذي يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من البلاء ، وعذبت طائفة منهم بالنار وبالسياط ، عثمان بن مظعون معافى لا يعرض له ، رجع إلى نفسه وعثمان بن مظعون ، وقال : أما من كان في عهد الله وذمته ، وذمة رسوله الذي اختار لأوليائه من أهل الإسلام ، ومن دخل فيه فهو خائف مبتلى بالشدة والكرب ، عمد إلى فاستحب البلاء على العافية الوليد بن المغيرة ، فقال : يا ابن عم ، أجرتني فأحسنت جواري ، وإني أحب أن تخرجني إلى عشيرتك ، فتبرأ مني بين أظهرهم . فقال له الوليد : ابن أخي لعل أحدا آذاك أو شتمك وأنت في ذمتي ، فأنت تريد من هو أمنع لك مني ، فأنا أكفيك ذلك ؟ قال : لا والله ما بي ذلك ، وما اعترض لي من أحد ، فلما أبى عثمان إلا أن يتبرأ منه الوليد أخرجه إلى المسجد ، وقريش فيه كأحفل ما كانوا ، ولبيد بن ربيعة الشاعر ينشدهم ، فأخذ الوليد بيد عثمان فأتى به قريشا ، فقال : إن هذا غلبني وحملني على أن أنزل إليه عن جواري ، أشهدكم أني بريء فجلسا مع القوم ، وأخذ لبيد ينشدهم فقال :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
. فقال عثمان : صدقت . ثم إن لبيدا أنشدهم تمام البيت ، فقال :وكل نعيم لا محالة زائل
. فقال : كذبت . فسكت القوم ولم يدروا ما أراد بكلمته ، ثم أعادها الثانية ، وأمر بذلك ، فلما قالها قال مثل كلمته الأولى والأخرى ، صدقت مرة وكذبت مرة ، وإنما يصدقه إذا ذكر كل شيء يفنى ، وإذا قال : كل نعيم ذاهب كذبه عند ذلك ؛ إن نعيم أهل الجنة لا يزول ، نزع عند ذلك رجل من قريش فلطم عين ، فاخضرت مكانها ، فقال عثمان بن مظعون الوليد بن المغيرة وأصحابه : قد كنت في ذمة مانعة ممنوعة فخرجت منها إلى هذا ، فكنت عما لقيت غنيا ، ثم ضحكوا ، فقال عثمان : بل كنت إلى هذا الذي لقيت منكم فقيرا ، وعيني التي لم تلطم إلى مثل هذا الذي لقيت ، صاحبتها فقيرة لي فيمن هو أحب إلي منكم أسوة ، فقال له الوليد : إن شئت أجرتك الثانية . قال : لا أرب لي في جوارك . رواه وعن هكذا مرسلا ، وفيه الطبراني أيضا . ابن لهيعة