فصول في مسائل الشرب فصل في المياه ( وإذا كان ، والشفة : الشرب لبني آدم والبهائم ) . اعلم أن المياه أنواع منها : ماء البحار ، ولكل واحد من الناس فيها حق الشفة وسقي الأراضي ، حتى إن من أراد أن يكري نهرا منها إلى أرضه لم يمنع من ذلك والانتفاع بماء البحر كالانتفاع بالشمس والقمر والهواء ، فلا يمنع من الانتفاع به على أي وجه شاء . لرجل نهر أو بئر أو قناة فليس له أن يمنع شيئا من الشفة
والثاني : ماء الأودية العظام : كجيحون ، وسيحون ، ودجلة ، والفرات [ ص: 212 ] للناس فيه حق الشفة على الإطلاق ، وحق سقي الأراضي فإن إن كان لا يضر بالعامة ، ولا يكون النهر في ملك أحد له ذلك ; لأنها مباحة في الأصل إذ قهر الماء يدفع قهر غيره ، وإن كان يضر بالعامة ، فليس له ذلك ; لأن دفع الضرر عنهم واجب ، وذلك في أن يميل الماء إلى الجانب إذا انكسرت ضفته ، فيغرق القرى والأراضي ، وعلى هذا نصب الرحى عليه ; لأن شق النهر للرحى كشقه للسقي به . أحيا واحد أرضا ميتة وكرى منها نهرا لسقيها
والثالث : إذا دخل الماء في المقاسم فحق الشفة ثابت ، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام : { }" وأنه ينتظم الشرب ، والشرب خص منه الأول وبقي الثاني ، وهو الشفة ، ولأن البئر ونحوها ما وضع للإحراز ، ولا يملك المباح بدونه كالظبي إذا تكنس في أرضه ، ولأن في إبقاء الشفة ضرورة ; لأن الإنسان لا يمكنه استصحاب الماء إلى كل مكان وهو محتاج إليه لنفسه وظهره فلو منع عنه أفضى إلى حرج عظيم ، وإن أراد رجل أن يسقي بذلك أرضا أحياها كان لأهل النهر أن يمنعوه عنه أضر بهم أو لم يضر ; لأنه حق خاص لهم ولا ضرورة ، ولأنا لو أبحنا ذلك لانقطعت منفعة الشرب . الناس شركاء في ثلاث الماء والكلإ والنار
والرابع : الماء المحرز في الأواني وأنه صار مملوكا بالإحراز ، وانقطع حق غيره عنه كما في الصيد المأخوذ إلا أنه بقيت فيه شبهة الشركة نظرا إلى الدليل ، وهو ما روينا حتى لو سرقه إنسان في موضع يعز وجوده ، وهو يساوي نصابا [ ص: 213 ] لم تقطع يده ، ولو كان له أن يمنع من يريد الشفة من الدخول في ملكه إذا كان يجد ماء آخر يقرب من هذا الماء في غير ملك أحد ، وإن كان لا يجد يقال لصاحب النهر : إما أن تعطيه الشفة ، أو تتركه يأخذه بنفسه بشرط أن لا يكسر ضفته ، وهذا مروي عن البئر أو العين أو الحوض أو النهر في ملك رجل رحمه الله ، وقيل : ما قاله صحيح فيما إذا احتفر في أرض مملوكة له . الطحاوي
أما إذا احتفرها في أرض موات فليس له أن يمنعه ; لأن الموات كان مشتركا ، والحفر لإحياء حق مشترك ، فلا يقطع الشركة في الشفة ، ولو منعه عن ذلك وهو يخاف على نفسه أو ظهره العطش له أن يقاتله بالسلاح ; لأنه قصد إتلافه بمنع حقه وهو الشفة والماء في البئر مباح غير مملوك بخلاف الماء المحرز في الإناء حيث يقاتله بغير السلاح ; لأنه قد ملكه ، وكذا الطعام عند إصابة المخمصة ، وقيل في البئر ونحوها الأولى أن يقاتله بغير سلاح بعصا ; لأنه ارتكب معصية فقام ذلك مقام التعزير له ; والشفة إذا كان يأتي على الماء كله بأن كان جدولا صغيرا ، وفيما يرد من الإبل والمواشي كثرة ينقطع الماء بشربها قيل : لا يمنع منه ; لأن الإبل لا تردها في كل وقت فصار كالمياومة وهو سبيل في قسمة الشرب ، وقيل : له أن يمنع اعتبارا بسقي المزارع ، والمشاجر والجامع تفويت حقه ، ولهم أن يأخذوا الماء منه للوضوء وغسل الثياب في الصحيح ; لأن الأمر بالوضوء والغسل فيه كما قيل يؤدي إلى الحرج ، وهو مدفوع . وإن أراد أن يسقي شجرا أو خضرا في داره حملا بجراره له ذلك في الأصح ; لأن الناس يتوسعون فيه ، ويعدون المنع من الدناءة ، وليس له أن يسقي أرضه ونخله وشجره من نهر هذا الرجل وبئره وقناته إلا بإذنه نصا ، وله أن يمنعه من ذلك ; لأن الماء متى دخل في المقاسم انقطعت شركة الشرب بواحدة ; لأن في إبقائه قطع شرب صاحبه ولأن المسيل حق صاحب النهر ، والضفة تعلق بها حقه ، فلا يمكنه التسبيل فيه [ ص: 214 ] ولا شق الضفة فإن أذن له صاحبه في ذلك أو أعاره فلا بأس به ; لأنه حقه . فتجري فيه الإباحة كالماء المحرز في إنائه ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .