الحكم الخامس : . قال رجوع أرباب السلع وغيرها إلى مالهم : إذا فلس بثمن المبيع والثمن حال أو مؤجل والسلعة قائمة بيده خير البائع في تركها ومحاصة الغرماء بالثمن ، وفي فسخ البيع وأخذ عين ماله إلا أن يختار الغرماء دفع الثمن إليه فذلك لهم ، وإن مات مفلسا فلا حق للبائع في عين سلعته ، وهو أسوة [ ص: 173 ] الغرماء ، وقال ( ح ) : لا حق له في عين ماله في الموضعين ، وبعد القبض أسوة الغرماء ، وقبل القبض تباع السلعة ويقبض حقه من الثمن ، وقال ( ش ) : هو أحق بها في الموضعين ، إن شاء أخذها أو تركها وحاصص بالثمن ، ووافقنا الطرطوشي . ابن حنبل
وأصل المسألة أن الثمن يجري مجرى المثمن ، وكذلك يقبل الإقالة والرد بالعيب ، فإذا تعذر بالفلس كان كتعذر تسليم المبيع للمشتري فسخ البيع ، وعند أبي حنيفة الثمن معقود به لا معقود عليه ، فلا ينفسخ العقد بالإعسار به .
لنا : ما في الموطأ : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " والبخاري " . وروى أيما رجل أفلس فأدرك رجل متاعه بعينه فهو أحق به مالك أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " " . أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يعط الذي باعه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به من غيره ، فإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء
فإن قيل : أراد بصاحب المتاع المشتري ; لأنه صاحب المتاع حقيقة ، وأما البائع فهو كان صاحب المتاع ليلا يظن أن الإفلاس يضعف ملكه .
قلنا : بل المراد المبتاع لأن المشتري أحق قبل الإفلاس فاشتراط الإفلاس لا يتم إلا على ما ذكرناه ، ولأن أحق صيغة أفعل يقتضي الاشتراك ، وعلى رأيكم لا اشتراك بل المشتري متعين ، وعلى رأينا يكون الحق للمشترك في الانتزاع ، وللبائع في أصل الملك فيتعين ما قلناه ، وبالقياس على ما قبل قبض السلعة له حق الفسخ كما قاله بعضهم قبل القبض ، وقال بقيتهم : يباع ويختص بالثمن ، فنقول : فلا يكون أسوة الغرماء كما قبل القبض ، والجامع تعذر الثمن . وكما أن تعذر المبيع يوجب حق الفسخ فكذلك تعذر الثمن ; لأن كل واحد عوض مقصود ، ولا فرق بين المعين وما في الذمة ; لأن العبد المبيع إذا أبق ثبت حق الفسخ ، والمسلم فيه إذا تعذر ثبت حق الفسخ عندهم ، وهو أحد أقوالنا وأحد قولي الشافعي .
ولا يلزمنا إذا باعه ثم رجع إليه وأعسر بالثمن ، فإن البائع يملك الرجوع ، ولا إذا وهبه ثم أفلس بثمنه ؛ لتعلق حق الغير به . وكذلك إذا مات مفلسا ; لأن الموت يقطع الأملاك [ ص: 174 ] وينقلها للوارث ، ولا إذا منع المبتاع الثمن من غير فلس لعدم التعذر ، فيأخذ الحاكم الثمن قهرا ويسلمه له ، أو نقول أحد المتبايعين يثبت له الخيار عند التعذر في حقه كالمشتري إذا اطلع على العيب بل أولى ; لأن تعذر الكل أعظم من تعذر الوصف ، ولأن نسبة العقد إليهما نسبة واحدة ، فوجب استواؤهما في آثارها ، ولأنا فسخنا العقد بأجنبي عنه إذا تعذر وهو الرهن ، فأولى تعذر الركن ، أو نقول عقد معاوضة فيلحقه الفسخ بالإفلاس كالكتابة ، ولا يلزم إذا باع من نفسه ; لأنها عتاقة ، ولا تلزمه الحوالة إذا وجد المحال عليه مفلسا ، كقولنا عقد معاوضة والحوالة نقل للحق من ذمة إلى ذمة ، ولا الخلع إذا أفلست المرأة ; لأن الطلاق والعتاق لا يقبلان الفسخ بخلاف البيع .
ولا يقال : رتبتم على العلة ضد مقتضاها ; لأن المعاوضة مقتضى اللزوم بدليل اعتصار الهبة دون البيع ، وثبوت الرجعة في المطلقة بغير عوض بخلاف الخلع .
لأنا نقول : بل مقتضاها ، لأن المعاوضة تقتضي التسوية بينهما ، فلما كان لأحدهما الفسخ يكون للآخر كما تقدم .
احتجوا بقوله - عليه السلام - : ) . وهذا نص ، ولأن الإفلاس لو كان سببا لذلك لكان سببا مع هلاك السلعة كالرد بالعيب ، ولأن حق الجناية أعظم من حق البيع لترتبه ، فهو أمر غير رضى المجني عليه ، وهو لا يتعلق بأعيان الأموال فالبيع أولى ، وبالقياس على رهن المشتري المبيع قبل فلسه ، ولأنه أسقط حقه بالتسليم فيه فلا يرجع لأنه يساوي الغرماء في سبب الاستحقاق ، ولأنه من أموال فلا يكون لأحد فيه سلطان ، ولأنه لو اشترى بمؤجل وباع بحال ثم اشتراه بمؤجل ثم باعه من آخر بحال ، ثم اشتراه بمؤجل وأفلس بجميع الأثمان فإن لم [ ص: 175 ] يثبت الرجوع لزم مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجوع المبيع بحاله مع الفلس ، وانتفضت قاعدتكم ، وإن ثبت فليس أحدهم أولى من الآخر فيلزم الترجيح من غير مرجح ، أو الجمع بين النقيضين في رجوع الكل ; لأن كل واحد يكون مختصا بالمبيع ، فالمبيع لا يكون مختصا ، لأن المثمن مباين للثمن من وجوه : أحدها : أن الثمن في حكم المقبوض ، ولهذا تجوز المعاوضة عليه دون العين المبيعة قبل القبض . وثانيها : إذا انقطع جنس المسلم فيه ثبت الفسخ ، وانقطاع جنس الثمن لا يثبته . ( أيما امرئ هلك وعنده متاع امرئ بعينه قبض من ثمنه شيئا أو لم يقبض فهو أسوة الغرماء
والجواب عن الأول : القول بموجبه ; لأنه لا يرجع عندنا في الهلاك ، ونحن نحتج بنقل ( ش ) ، والفرق أن في الهلاك اشتد باب الاكتساب فتعينت التسوية بين الغرماء ; ليلا يذهب بعض الحق مطلقا . أما في الفلس مع الحياة فخير الجميع متوقع بما تعينت المفسدة ، وعن الثاني : أن الفسخ في العيب عند الهلاك يحصل فائدة ، وهو قيمة السلعة كاملة ، والكامل أتم من الناقص في قيمته ، وهاهنا لو فسخ رجع إلى ذمة المشتري ، وإذا لم يفسخ فهو في ذمة المشتري ، مع أن القيمة قد تكون أقل أو مساوية أو أكثر ولا مرجح قبل الكشف عن ذلك ، فلم يكن ثم غالب يناط به الحكم العام ; فيسقط اعتبار الفسخ لعدم الفائدة ، بخلاف العيب ، قرينة التمام دليل ظاهر على حصول الفائدة ، فظهر الفرق . وعن الثالث : أن أصل الجناية لا يتعلق بأعيان الأموال ، والبيع تعلق بأعيان الأموال ، فكان تعذرها مؤثرا فيه . وعن الرابع : أن الرهن يوجب تعلق حق الغير بغير ما تعلق به حقه ، بخلاف الغرماء لم يتعلق حقهم إلا بالذمة دون عين المبيع ، فظهر الفرق . وعن الخامس : إسقاط الحق بالتسليم لا يمنع الرجوع ، كما إذا اشترى عبدا بثوب وسلم الثوب فأبق العبد أو وجد أحد العرضين معيبا قبض الآخر ، وقد رجح على الغرماء بوجود عين ماله بخلافهم . وعن السادس : أن كونه ماله لا يمنع من سلطان الغير عليه ، كالعبد إذا أبق بعد أن صار الثوب من أمواله ، وعن السابع : قال أبو الوليد : إنه لم يجد في هذه الصورة نقلا ، ورأى أن الآخر أحق لأنه كالناسخ فما رجحناه إلا بمرجح . وعن الثامن : أن التصرف يجوز عندنا في المبيع إلا في الطعام ; تعظيما لقدره لكونه سبب الأقوات وقوام الحياة ، فهذا الأمر يخصه لا لكونه ثمنا أو مثمنا .
[ ص: 176 ] ولنا : على ( ش ) ما رواه مالك أنه - عليه السلام - قال : " " . أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاع منه ولم يقبض الذي باع منه من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به ، فإن مات الذي ابتاعه فصاحب المبتاع أسوة الغرماء
احتج بما رواه : أنه - عليه السلام - قال : " ، فلأن الرجوع في الموت أولى بخراب الذمة والإياس ، فلو عكس الحال لكان أولى ، ولأن الشفيع يثبت حقه في الحياة وفي الموت مع الوارث فأولى البائع ; لأنه كان مالكا لغير المبيع ، وما رضي بالنقل إلا بشرط سلامة العاقبة بخلاف الشفيع . أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه
والجواب عن الأول : أن إسناده ضعيف ، وعن الثاني : تقدم الفرق عنه ، وعن الثالث : أن ضرر الشفيع بالشريك المتجدد لم يختلف في الحياة والموت ، وتعذر الاستيفاء في الموت متعين فلا يسقط شيئا من حقوق الغرماء كما تقدم .