النظر الثاني : في أحكامهم .
قال الله تعالى : ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) ، فجعل تعالى الفساد في الأرض ، كالقتل في وجوب القتل ، وبين الفساد فقال : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) ، فمحاربة الله ورسوله : إخافة السبيل ، وهو السعي في الأرض فسادا . فكررت الحرابة بلفظين تأكيدا .
فرع :
في الجواهر : قال مالك : جهادهم جهاد ، ونناشد المحارب الله تعالى ثلاث مرات ، فإن عاجله ، قاتله ، وقال عبد الملك : لا يدعه وليبادر إلى القتال . قال مالك : يدعوه إلى التقوى ، فإن أبى قاتله ، وإن يطلب مثل الطعام وما خف ، فليعطوه ولا يقاتلوه ; لأنه أخف مفسدة . قال : [ ص: 126 ] أرى أن لا يعطوا شيئا ، وإن قل ، ولا يدعوا ، وليظهر لهم الصبر والجلد والقتال بالسيف ، فهو أقطع لطمعهم . سحنون
فرع :
في الكتاب : ، خير الإمام بين القتل والقطع ، ورب محارب لم يقتل ، أعظم فسادا في حرابه ممن قتل ، فإذا نصب ، وعلا أمره ، وأخاف ، وحارب ولم يقتل ، وأخذ المال أو لم يأخذ ، خير في قتله ، أو قطع يده ورجله ، ولا يجتمع مع القتل قطع ولا ضرب ، ولا يضرب إذا قطعت يده ورجله ، ولا يستوي المحاربون ، منهم من يخرج بعصا ، فيؤخذ على تلك الحال بحضرة الخروج ، ولم يخف السبيل ، ولا أخذ مالا فيكفي الضرب والنفي والسجن في الموضع الذي نفي إليه . ولا يجوز العفو عنه ; لأنه حق الله تعالى . ونفى من حارب من الذمة أو المسلمين ، وأخافوا السبيل ، ولم يأخذوا مالا ، ولم يقتلوا محاربا من عمر بن عبد العزيز مصر إلى شفت ، وينفى من المدينة إلى فدك وخيبر ، ويسجن هناك حتى تعرف توبته ، فإن قتل ، وأخذ المال ، وأخاف السبيل ، قتل ، ولا تقطع يده ورجله . والصلب مع القتل فيصلب حيا ، وثم يطعن بالحربة . والعبد مثل الحر ، غير أنه لا ينفى لحق سيده في خدمته . وفي المقدمات : معنى قول مالك في التخيير : إنه يفعل ما هو أقرب للصواب ، فذو الرأي يقتله ; لأن القطع لا يدفع مضرته ، وذو القوة فقط يقطعه من الخلاف ; لأن ذلك ينفي ضرره ، وإن لم يكن على هذه الوجوه وأخذ عند خروجه ، فالضرب والنفي ، ليس معناه أنه يتخير بهواه . ومتى قتل فلا بد من [ ص: 127 ] قتله . وينحصر التخيير في قتله وصلبه وقطعه . وقوله في الكتاب : ، فإنه يقتل ، لا ينبغي أن يؤخذ إلا بالقتل . وخالفنا الأئمة ، فقالوا : الآية للترتيب ، فلا يقتله إذا لم يقتل ، ولا يقطعه إذا لم يأخذ المال ، فإن قتل وأخذ المال ، خيره ( ح ) بين القتل فقط ، أو مع القطع ، ( ولا يصلب ، أو يجمع بين القتل والصلب . وقال ( ش ) : يتعين القتل والصلب ; لأنه يأتي على القطع ) ، وإن لم يقتل ولا أخذ المال ، تعين النفي . ويقدرون الشرط مكررا في الآية ، معناها عندهم : أن يقتلوا إن قتلوا ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال ، أو ينفوا إن لم يفعلوا شيئا من ذلك ، وقال ( ح ) : نفيه ( حبسه ببلده حتى تظهر توبته ) ، وهو مروي عن إن نصب نصبا شديدا ، أو علا أمره ، وطال زمانه مالك ، وقال ( ش ) : نفيه أن يطلبه الإمام أبدا ، وهو يهرب من موضع إلى موضع . لنا : أن الأصل : عدم الإضمار وإرادة الحقيقة ، وهي التخيير الذي هو مسمى . واحتجوا بما في الصحيح : قال - عليه السلام - : ( ) ، ولم توجد في المحارب ، فلا يقتل ; ولأنه سبب واحد ، فلا تتعلق به عقوبتان ، كالقتل والسرقة ; ولأن الله تعالى شرط في الآية محاربة الله ورسوله مع الحرابة ، ولم يوجد ذلك في مسألتنا ; ولأن عادة الله تعالى في التخيير : البداية بالأخف ، كما في كفارة اليمين ، وفي الترتيب بالأشد ، نحو كفارة الظهار . وقد بدأ هاهنا بالأشد ، فتكون للترتيب ; ولأن الأصل : أن عظم العقوبة يتبع عظم الجناية ، فلا يترتب القتل إلا حيث القتل . لا يحل دم امرئ مسلم ، إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس
[ ص: 128 ] والجواب عن الأول : أنه عام والآية خاصة فيقدم عليه .
وعن الثاني : أنا لم نعلق بالسبب الواحد عقوبتين ، بل صفة كل محارب إلى عقوبة واحدة ، والحرابة من حيث هي حرابة لها عقوبة واحدة ، وهي الضرب والنفي كالزنا .
وعن الثالث : أن محاربة الله تعالى محال ، فيتعين صرفها لمعصيته بالفساد في الأرض ، ويكون المعنى واحدا ، كقوله تعالى : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) ، والحزن ، البث ، وعبس ، وبسر ، ومعناها واحد ، وهو في اللغة : يدل على اهتمام المتكلم به .
وعن الرابع : أن المستند في الترتيب : أن يذكر بصيغة إن ، والتخيير بصيغة أو ; لكونه أشد وأضعف . وقد وجدت أو هاهنا ، فتكون للتخيير ، وإنما بدأ هاهنا بالأشد ; إشارة إلى عظم رتبة الحرابة في الجنايات .
قاعدة : للتخيير في الشريعة أربعة معان : المباح المطلق ، كالتخيير بين أكل الطيبات ، ولبس الثياب ، والواجب المطلق ، كتصرفات الولاة ، فمتى قلنا : الإمام مخير في صرف بيت المال ، وفي أسارى العدو ، أو التعزير ، أو المحاربين ، فمعناه : أن ما يتعين سببه برجحان مصلحته ، وجب عليه ، وحرم عليه غيره ، فهو أبدا ينتقل من واجب إلى واجب . ويشبه أن يخرج على هذه القاعدة تخيير الساعي بين أربع حقاق وخمس بنات لبون ، ولا يتوقف أخذه لأحدهما على رجحان مصلحته ; لوجوب [ ص: 129 ] السبب الواحد المقتضي لهما ، وهو الملك الحاضر من الإبل ، ويحتمل أنه يجب عليه أن لا يأخذ إلا الأرجح للفقراء ، إلا أن بذل النصيحة للأمة واجب على الأئمة ونوابهم ، ولا يأخذ شيئا دون السن الواجب مع دراهم أو عرض ، إلا أن يكون أرجح للفقراء ; لأن السبب إنما اقتضى السن المتروكة ، والثالث : التخيير بين واجب من وجه ، ومباح من وجه ، نحو كفارة اليمين ، خير بينها ، وكل واحد واجب من حيث أنه أحد الخصال ، ومباح من ( وجه ، نحو كفارة اليمين من ) جهة خصوصه . وقد يكون خصوص العتق أو الطعام مندوبا ، فيكون التخيير بين الواجب والمندوب ، لا على معنى ترك الواجب ، بل المخير بينها واجبة من جهة عمومها ، لا من جهة خصوصها ، بخلاف تخيير الولاة يقع أبدا في واجب بخصوصه وعمومه ، فيما يعينه سببه وفي القسم ، أو المباح بخصوصه وعمومه الدائر بين الواجب والمكروه ، كتخيير المسافر بين القصر والإتمام ، والقصر واجب ، والإتمام مكروه على المشهور . والتخيير بين الصوم والفطر ، تخيير بين شهر الأداء وشهر القضاء ، فالواجب أحد الشهرين ، فهو من باب خصال الكفارة . وكذلك الجمعة في حق العبد ، والمسافر ، والمرأة ، وإن قلنا : القصر ليس مستحبا ، ( خير بين الواجب الذي هو القصر ، والمباح الذي هو الإتمام ) . والفرق بين خصال الكفارة ، والقصر ، والإتمام : أن القصر الذي هو الركعتان لا بد منهما إجماعا ، وإنما خير بين أن يزيد عليهما أم لا ، فالخصوص واجب في الركعتين ، وليس واجبا في خصلة من خصال [ ص: 130 ] الكفارة ، وهذه قاعدة في التخيير أبدا بين سببين : أحدهما جزء الآخر ، كتخيير الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - في قيام الليل بين ثلثه ونصفه وثلثيه ، فالثلث لا بد منه ، وما زاد مندوب ، والتخيير واقع فيه بين واجب ومندوب . وبهذه القواعد والتنبيهات يظهر بطلان من يقول : التخيير لا يقع إلا بين متساويين ، وأن التخيير يقتضي التساوي .
فرع :
قال ابن يونس : عند مالك يوم وليلة ; النفي . قاله بعضهم ، ولا نفي على النساء لما تقدم في باب الزنا ; ويكتب للوالي بحبسه بذلك الموضع ، حتى يتوب من غير تحديد ، بخلاف الزنا ، ونفقتهما في حملهما من أموالهما . لنهيه - عليه السلام - أن تسافر المرأة يوما وليلة ، إلا مع ذي محرم منها يحبس في موضعه . في المقدمات : قال وقاتل النفس ابن القاسم : يصلب حيا ، ويقتل في الخشبة ، فيسيل دمه مربوطا عليها ، من قولهم : تمر مصلب إذ كان شعره سائلا . وقال أشهب : يقتل قبل الصلب ، ثم يصلب ، فالتخيير واقع في صفة قتله ، لا بين قتله وصلبه ، فعلى رأي أشهب : يصلى عليه قبل الصلب . ويختلف في الصلاة عليه على مذهب ابن القاسم ، فقال عبد الملك : ليترك على الخشبة ، حتى تأكله الكلاب ، ولا يمكن من الصلاة عليه ، وعنه : يصلى خلف الخشبة ، ويصلى عليه مصلوبا ، وقال : ينزل من عليها ويصلى عليه ; لأنها سنة الصلاة وفي إعادته لها ; ليرتدع المفسدون ( قولان ) . وقال ( ح ) : يترك ثلاثة أيام ، وينزل ، جمعا بين المصالح ، وقد توفى معنى النص ، والزيادة مثلة منهي عنها ، والقطع في اليد اليمنى والرجل [ ص: 131 ] اليسرى ، فإن عاد ، قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى ، ( فإن كان أشل اليمنى والرجل اليسرى ، أو مقطوعهما ، قال سحنون ابن القاسم : تقطع يده اليسرى ، ورجله اليمنى ) حتى يكون القطع من خلاف ، وقال أشهب : تقطع يده اليسرى ، ورجله اليسرى ; لأنها المستحقة للحرابة . وفي النفي ثلاثة أقوال ، فعن مالك : السجن ، وقاله سفيان ، وقال مالك وابن القاسم : ، فيسجن حتى تظهر توبته ، وقال ينفى إلى بلد أقله مسافة القصر عبد الملك : يطلبهم الإمام لإقامة الحد ، فهروبهم منه هو النفي ، وإن قدر عليه لا ينفى . في النوادر : متى قتل ، قتل بالسيف من غير صلب . قال اللخمي : يسقط عن النفي والصلب ، وعلى قول المرأة مالك : إن النفي : الحبس بالبلد نفي ، وعلى المشهور : لا تنفى ، قال : وأرى إن وجدت وليا أو جماعة مرضيين ، وقالت : أخرج إلى بلد آخر ، فأسجن فيه ، أن لها ذلك ; لأنه أهون عليها من القطع والقتل . وحد العبد ثلاثة : القطع من خلاف ، والقتل بانفراده ، ( والصلب والقتل ) ، ويختلف في نفيه ، كما في المرأة . قال : وأرى إن قال سيده : أرضى بنفيه ، ولا يقطع ، أن يسوى بالحر . والحد أربعة : القطع ، والقتل بانفراده ، أو القتل والصلب ، أو النفي . وهو خلاف ما تقدم . في المقدمات : قال : وأما الصبي لم يحتلم ولم ينبت ، فيعاقب ولا يحد ، فإن أنبت الإنبات البين ، فخلاف في حده ، والمجنون يعاقب للاستصلاح ، كما تؤدب البهيمة للرياضة ، وإن خف جنونه ، حد ، وإن حارب وقت إفاقته ، ثم جن ، أخر حتى يفيق ، كالسكران لسكبه العقوبة . واختلف قول مالك في أو كل محارب تتعين له عقوبة ، [ ص: 132 ] ويجتهد الإمام في ذلك إذا عظم فساده ، وأخذ المال ؟ وقال العقوبات الأربع ، هل هي على التخيير في المحارب الواحد ؟ أشهب : إن أخذ بالحضرة ، ولم يأخذ مالا ، يخير فيه بين القتل والقطع والنفي ، وكذلك إذا عظم أمره ، وأخذ المال ، فإن قتل تعين القتل ; لقوله تعالى : ( النفس بالنفس ) ، وخير أبو مصعب فيه ، وإن قتل لظاهر الآية . ، ولا يرمى بشيء من عال ، ولا حجارة ، وإن رأى صلبه ، صلبه قائما لا منكوسا ، وتطلق يداه ، وإن لم تطلق فلا بأس . قال : وظاهر القرآن : أن الصلب قائم بنفسه ، وروي عن ويقتل المحارب بالسيف أو الرمح بغير تعذيب مالك ذلك ، والمذهب أنه مضاف للقتل ، وليس يصلب ولا يقتل ، فلو حبسه الإمام ليصلبه فمات ، لم يصلبه ، ولو قتله أحد في الحبس ، فله صلبه ; لأنه بقية حده ، وقال : إذا صلب ، وقتل ، أنزل من ساعته ، وصلي عليه ودفن ، وإن رأى الإمام إعادته بعد الصلاة للخشبة لمزيد فساده أعاده ، وإن سحنون ، قطع اليد اليمنى والرجل اليمنى ، قال كان أقطع الرجل اليسرى محمد : وإن لم يكن له إلا يد أو رجل ، أو يدان ، قطعت اليمنى وحدها . وعلى هذا إن لم يكن له إلا رجلان قطعت اليسرى وحدها . والضرب مع النفي استحسان ; لأنه زيادة على النص ، وليس له حد ، بل بحسب الحال ، ولا تقبل توبته في السجن بمجرد الظاهر ; لأنه كالمكره بالسجن ، بل تعتمد على القرائن ، فإن علمت توبته قبل طول السجن لم يخرج ; لأن طول السجن حد . قال ابن القاسم : والنفي - عندنا - إلى أسوان ، قال : ويضيق عليه في السجن ، فلا يدخل إليه إلا وقت طعامه . قال : وأرى إن عوقب بالنفي ، ثم عاد ، حد بالقطع أو القتل ; لأن النفي لم يزجره ، وإن عاد بعد القطع إلى الأمر الخفيف ، ورجي في نفيه صلاحه ، نفذ ذلك ، أو [ ص: 133 ] متماديا على حرابته ، فالقطع أو القتل ، وإن قطع في الثالثة ، قتله في الثالثة أو أبقاه إن ضعف شره . ومتى رجي صلاحه بغير القتل ، لم يقتل .
فرع :
في الكتاب : على مسلم أو ذمي . قليل المال دون ربع دينار مثل كثيره في قطع الطريق
فرع :
قال : إن ، سقط الحد دون حق الآدمي في نفس ، أو جرح ، أو مال . وللأولياء العفو أو القتل فيمن قتل ، وكذلك الجراح ، فإن كانوا تاب قبل القدرة عليه ) ، قتلوا كلهم ، وإن تابوا قبل أن يؤخذوا ، فللولي ما تقدم من العفو والقصاص ، ويأخذ الدية متى شاء . وقد قتل جماعة ( قتلوا رجلا ، ولي أحدهم قتله ، وأعانه الباقون عمر - رضي الله عنه - ربيئة كان ناطورا للباقين ، فإن ولي أخذ المال والباقون له قوة ، واقتسموه ، ضمن جميع المال ، وإن وتاب بعض من لم يل أخذ المال ، فهو دين عليهم ، وأن أخذوا قبل التوبة ، وحدوا ، أخذت أموال الناس من أموالهم ، وإن لم يكن له مال لم يتبعوا ، كالسرقة . ويمتنع عفو الأولياء في الدماء والأموال ، وعفو الإمام إذا أخذوا قبل التوبة : وتحرم الشفاعة ; لأنه حد بلغ الإمام ، تابوا معدمين ، فعليهم ديته لأوليائه ; لأنه لا يقتل مسلم بذمي ، وإن كان ذميا أقيد منه . وإن تابوا قبل القدرة عليهم وقد قتلوا ذميا بترك ما كان فيه قبل القدرة عليه ، وإن كان في الذمة نساء فهن كالرجال ، ولا يكون [ ص: 134 ] وتعرف توبة المحارب الذمي محاربا حتى يحتلم . قال الصبي ابن يونس ، قوله : أخذت أموال الناس من أموالهم : يريد إن كان يسرهم متصلا من يوم أخذ المال ، فإن لم يكن يومئذ ، قال : لم يتبعوا بشيء كالسرقة ، قال اللخمي : يسقط الحد لقوله تعالى : ( إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ) . والأحسن عند مالك في توبة المحارب : أن يأتي السلطان ، وتصح عند جيرانه باختلافه للمسجد حتى تعرف توبته ، وقال عبد الملك : لا يكون إتيانه للسلطان تائبا توبة ، لقوله تعالى : ( من قبل أن تقدروا عليهم ) ، فإن امتنع بنفسه حتى أعطي الأمان ، فقيل : ينفعه كالكافر ، وقيل : لا ينفعه كالمرتد ، ولا بد من حق الله عز وجل . ولا يكون الأمان توبة وإن سأله ; لأن تأمين الكافر ليس إسلاما ، فإن قال الوالي لأحدهم : لك الأمان على أن تخبرني ما صنعتم ومن كان معكم ، لا يؤاخذ بإقراره ، ( قاله أصبغ ) ، قال وأرى أن يلزمه إقراره ; لأنه ليس مكرها ، وإذا تاب - وهو عبد - وعفا الأولياء ، فهي جناية في رقبته ، وإن خرج المحارب لم يقتص منه ، وإنما هو قطع أو قتل ، وكذلك إن قتل ليس للولي عفو ولا قود ، بل الإمام يقيم الحد ، وإن رأى الإمام أن لا يقتلهم ، ومكن أولياء المقتول منهم ، فعفوا بعد ذلك ، واقتص منهم ، وهذا إذا قتلوا حرابة ، وأما ، فينفذ العفو عند غيلة ابن القاسم على مال وغير مال ، ولا ينقض الحكم ; لأنه موطن خلاف . وعن ابن القاسم : ذلك في قتل الحرابة ، ولا ينقض الحكم ، وعن أشهب : لا يقتل في الجماعة إلا القاتل ، أو معين ، أو ممسك أمسكه وهو يعلم أنه يريد قتله ، وغيرهم يضرب عليه ويحبس سنة ، وقول عمر - رضي الله عنه - : لو اجتمع عليه أهل صنعاء لقتلتهم ، كان في الغيلة ، وقال عبد الملك : إن كانوا لا يعدون على المال إلا بالكثرة ، ضمن بكل واحد الجميع ، أو [ ص: 135 ] يقوى عليه الواحد والاثنان ، فحصة كل واحد فقط ، وإنما فرق بين قتل القدرة وبعدها ; لأن قبلها قبول التوبة منه ترغيب له ، وحسم لفساده ، وبعدها هو عاجز ، فيؤخذ منه حق الله ; وزجرا لأمثاله . وعندنا حقوق الله تعالى لا تسقط بالتوبة كالسرقة ، والخمر ، والزنا ، وقاله ( ح ) وعند ( ش ) قولان ، واشترط في السقوط ، مضي مدة تظهر فيها التوبة ، ومنهم من قدرها بسنة ، ومنهم من قال : بل مدة لو لم يكن تائبا فيها لباشر المعصية ، وحصل الاتفاق في الحرابة قبل القدرة . لنا : النصوص المقتضية للحدود ، وقوله - عليه السلام - في ماعز : ( ) ، ولم يوجب - عليه السلام - على راجمه شيئا ، وقال في الغامدية : ( إنه تاب ورجم ) ، ورجمها - عليه السلام - وأقول : لو سقط لسقط بالتوبة في الحال ، كالمقذوف والمحارب ، لكن المدة معتبرة ، فلا تكون مستقبلة ، وقياسا على القذف . واحتجوا بالقياس على الحرابة قبل القدرة ، وعلى الردة ، والفرق أن مفسدتها عظيمة ، فرغب في ترك ذلك بأن جعلت توبتهما تزيل حدهما ; ترغيبا في التوبة منهما ، بخلاف الزنا والخمر ، وأما بعد القدرة في الحرابة : فلتعلق حق الآدمي بها كالقذف . في المقدمات : في تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ثلاثة أقوال : أن يترك ما هو عليه وإن لم يأت الإمام ، أو يكفي إلقاء السلاح ويأتي الإمام طائعا ، ( قاله صفة التوبة ابن القاسم ) ، والثاني : يترك ما هو عليه ، ويجلس في موضعه ، وتظهر توبته لجيرانه ، وأما إن ألقى السلاح وأتى الإمام وحده فإنه يقيم عليه حد الحرابة ، إلا أن يترك قبل إتيانه ما هو عليه ، ( قاله عبد الملك ) ، الثالث : إنما تكون بإتيانه الإمام ، فإن ترك ما هو عليه لم يسقط الحد ، وفيما يسقط عنه بالتوبة أربعة أقوال : الحد فقط ، [ ص: 136 ] والحد وحقوق الله تعالى من الزنا ، والسرقة ، والخمر ، دون حقوق الناس ، ويسقط ذلك مع الأموال ، إلا ما وجد بعينه رد ، ويسقط مع الدعاء ، إلا مال وجد بعينه .