[ ص: 317 ] النظر الثالث : فيما يترتب على الجناية 
وهو ثمانية آثار : 
الأثر الأول : القصاص ، والبحث عن : محله ، وشروطه ، وكيفيته ، ومن يتولاه ، فهذه أربعة أبحاث . 
البحث الأول : في المحل ، وهو أربعة : النفس ، والعضو ، والمنفعة ، والجرح . 
المحل الأول : في النفس  ، وأصلها : قوله تعالى : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له    ) . وفي الكتاب : يقتل الصحيح بالسقيم الأجذم الأبرص المقطوع اليدين والرجلين  ، وإنما هي النفس ; لقوله تعالى : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس    ) وشرع من قبلنا شرع لنا  ، والرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل  ، وفي الجراح بينهما القصاص . قال  اللخمي     : تقتل المرأة بالرجل ، وليس على أوليائها فضل دية الرجل ، ويقتل البالغ بالصغير ، والعاقل بالمجنون ، ولا يقتص منهما    ; لأن القصاص عذاب لا يثبت إلا مع التكليف ; فعمدهما خطأ ، فإن جن بعد القتل ولم يفق    : قال  محمد     : إن أيس منه فالدية في ماله ، وقال  المغيرة     : يقتص منه نظرا لحالة الجناية ، وإن ارتد ثم جن لم يقتل ; لأن حقوق العباد أقوى . قال : وهو بين ; لأنه يأخذ حقه ناقصا ، كما يقتل العبد بالحر ، ولا يقتل الحر بالعبد ، ولا المسلم بالنصراني في قتل ولا جرح ، ويقتص من العبد والنصراني في النفس ; لأن الدني يقتل بالأعلى بخلاف العكس . واختلف في الجرح : فعن  مالك     : لا يقتص منهما فيها ، وعلى القصاص قياسا على النفس ، وعنه : منع القصاص في العبد دون النصراني    ; لأن العبد يسلم ، والنصراني لا يسلم ، وفي ذلك تسليط عن المسلمين ، يقلع عين المسلم ويعطيه دراهم ، ويعينه أهل جزيته ، وقال  ابن نافع     : يخير المسلم في القصاص والدية ، 318   [ ص: 318 ] والقصاص بين العبيد كالأحرار في النفس والجرح ، والذكران والإناث سواء ; لأن الحق للسيد في القصاص وأخذ العقل ، ومن فيه علقة رق كالقن من المكاتب والمدبر وأم الولد ، واستحسن أن يقتص من المعتق بعضه للقن ، وفي الحديث : ( يرث هذا بقدر ما أعتق منه ، ويعقل هذا بقدر ذلك   ) ولا يقتص من العبد المسلم للحر النصراني    ; لشرف الإسلام لقوله عليه السلام : ( ألا لا يقتل مسلم بكافر   ) واختلف في القصاص له من النصراني  ، أثبته  أشهب  بغلبة الإسلام على شائبة الرق ، ونفاه   سحنون  للرق ، وعلى الأول اختلف في الخيار للسيد فنفاه  ابن القاسم     . وقال : لا يعفو عن الدية كالحر يقتص أو يعفو على غير شيء ، وقال  محمد     : له أخذ الدية ; لأنه أتلف ماله ، ويقتص للنصراني من النصراني ، ومن اليهودي في النفس والجراح إذا دعا لذلك أولياء المقتول    ; لأنه تظالم . 
فرع 
في الكتاب : إذا قتل نفر امرأة أو صبيا  ، قتلوا لاشتراكهم في السبب ، أو عبدا أو ذميا غيلة ، قتلوا به ; لأنه حق الله تعالى في درء المفاسد والحرابة ، وإن قتل مسلم كافرا عمدا  ، ضرب مائة وحبس عاما ، أو خطأ ، فديته على عاقلته ، أو جماعة فالدية على عواقلهم . قال  ابن يونس     : يقتل النصراني بالمجوسي  ، ويقتل المجوسي به وباليهودي ، وإن قتل مسلم ذميا  فديته على عاقلته ، أو جماعة ، فالدية على عواقلهم ، وإن شهد عدل أن مسلما قتل نصرانيا عمدا  ؟ فعن  مالك     : يحلف المشهود عليه خمسين يمينا ، قال  أشهب     : 319   [ ص: 319 ] ويضرب ويحبس حلف أم لا ، وعنه وعن  ابن القاسم     : يحلف ورثة الذمي يمينا ، كل واحد منهم ، ويأخذ من ديته ويضرب ويحبس . قال  محمد     : وهو أحب إلينا إن كان بقول النصراني حلف المدعى عليه خمسين يمينا ، ولا يضرب ولا يحبس ، فإن جرحه فمات من جرحه . قال   ابن عبد الحكم     : يحلف ولاته يمينا واحدة ويستحقون الدية ; لأنه لا قسامة لهم . قال  مالك     : إن جرح مسلم عبدا أو نصرانيا فأنفذ هذا ، وعتق هذا ، وقال : دمي عند فلان وللنصراني أولياء مسلمون وللعبد أولياء أحرار  ، أقسموا مع قوله ، واستحقوا الدية في مال الجاني . قال  المغيرة     : إن قتل نصراني نصرانيا فخاف الجاني فأسلم  قتل . 
فرع 
في الكتاب : إن قتله جماعة  ، فللولي قتل من أحب ، أو العفو ، أو الصلح ، وإن عفا المقتول عن أحدهم فللوارث قتل الباقي ، لأنه حقه ، كما لو أبرأ من بعض الدين ، ووافقنا ( ش ) و ( ح ) ومشهور  أحمد  ، وعنه وعن جماعة من التابعين والصحابة : عليهم الدية ، وعن   الزهري  وجماعة : يقتل منهم واحد ، وعلى الباقي حصصهم من الدية ; لأن كل واحد مكلف له ، فلا يستوفى أبدال في مبدل واحد ، كما لا تجب ديات ، ولقوله تعالى : ( الحر بالحر    ) وقال تعالى : ( النفس بالنفس    ) ; ولأن تفاوت الأوصاف يمنع كالحر والعبد ، فالعود أولى . لنا : إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن  عمر  رضي الله عنه قتل تسعة من أهل صنعاء  برجل ، وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء    320   [ ص: 320 ] لقتلتهم ، وقتل  علي  رضي الله عنه ثلاثة ، وهو كثير ، ولم يعرف لهم مخالف في ذلك الوقت ، ولأنها عقوبة كحد القذف ، ويفارق الدية لأنها تتبعض دون القصاص    ; ولأن الشركة لو أسقطت القصاص وجدت ذريعة للقتل ، ووافقنا ( ش )  وأحمد  في عدم القصاص بين المسلم والذمي ، وقال ( ح ) : يقتل المسلم بالذمي . لنا : ما في   البخاري     : ( لا يقتل مسلم بكافر   ) احتجوا ، بقوله تعالى : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا    ) وهو مظلوم ، وبقوله تعالى : ( النفس بالنفس    ) وسائر العمومات . والجواب عن الجميع : بأن دليلنا خاص فيقدم على العمومات ، وخالفنا ( ح ) في قتل الحر بعبد الغير    . وقال   الثوري     : يقتل بعبده وعبد غيره ، ووافقنا ( ش )  وأحمد     . لنا : قوله تعالى ( الحر بالحر والعبد بالعبد    ) ، والقصاص لغة : المماثلة ، ولا مماثلة ، وقاله   الصديق  وعلي  رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة . وقال  علي  رضي الله عنه : السنة أن لا يقتل الحر بالعبد   ; ولأنه مال كالبهيمة . احتجوا بالعمومات وما ذكرناه أخص فيقدم ، وعندنا يقتل الوالد بولده  إذا تحققنا قصد القتل ، وقال ( ش ) و ( ح ) : لا يقتل . لنا : العمومات . احتجوا بما روي عن   [ ص: 321 ] النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يقتل والد بولده   ) والجواب : منع الصحة . ووافقنا ( ش ) في القصاص في المثقل ومنع ( ح ) . لنا : العمومات ، وفي   البخاري     : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتص من اليهودي الذي قتل الجارية بالحجر   ) ، ( وكونه اقتص بالحجر يدل ) على أن القتل لم يكن إلا قصاصا لا نقضا للعهد كما يتأوله الحنفية . احتجوا : بقوله عليه السلام : ( لا قود إلا بحديدة   ) وبقوله عليه السلام في الصحيح : ( إن في قتيل العمد الخطأ ; قتيل السوط والعصا مائة من الإبل   ) . 
والجواب عن الأول : أن معناه : لا يقتص إلا بالسيف ، والنزاع في القتل الأول ، ولم يتعرض له الحديث . 
عن الثاني : هو محمول على مثل قتل المدعي ابنه ، فيكون فيه العمد من جهة قصد الضرب ، والخطأ من جهة شفقة الأبناء ، فيجتمع الشبهان فيكون عمدا خطأ ، ونحن نقول به وخالفنا ( ش ) و ( ح ) في قتل الممسك وقالا : يقتل القاتل وحده . لنا : العمومات المتقدمة ، وقول  عمر  رضي الله عنه : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم ، ولا ممالأة أتم من الإمساك ، وقياسا على الممسك للصيد على المحرم فإن عليه الجزاء ، أو على المكره . 
				
						
						
